الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

بعض أحلى أيامي عشتها في رأس بيروت

جميل مطر *

عشتُ في مدن كثيرة ومررتُ بمدن أكثر. أحياء بعينها في كل هذه المدن تحتل النصيب الأكبر من ذاكرتي وتهيمن على حساب بقية الأحياء. أتوقف في مطار مدينة زرتها في سابق أيامي أو عشت فيها. أول ما أفعله فور خروجي من المطار الطلب إلى سائق السيارة اصطحابي إلى حي بعينه. هناك أتعرف على ما آلت إليه المدينة بعيون عاشق لهذا الحي. نادراً ما أخطأتُ التقدير أو خانني العشق. بيروت ليست استثناءً.

                                                                         *           *           *

زرتُ بيروت أول مرة شاباً يبدأ حياته في عمل جديد. نزلتها مجبراً فالطائرة التي كانت ستحملني إلى بومباي تمر ببيروت في طريقها من لندن. هناك في بيروت استضافتني شركة الطيران الهندية لأقضي ليلتين على نفقتها في أحد الفنادق الفخمة المطلة على البحر. فهمتُ وقتذاك أن هذا الكرم كان من شيم الشركات الكبرى المتنافسة على ركاب الدرجة الأولى في رحلات المسافات الطويلة، وقد شاءت ظروف عملي الجديد أن تقع أغلب رحلاتي بين مدن تفصل الواحدة عن الأخرى مسافة طويلة، شاءت أيضاً أن أسافر فقط بالدرجة الأولى.

                                                                         *           *           *

لم أعرف ماذا أفعل بنفسي خلال اليومين إلا أن أمشى متنقلاً من شارع إلى آخر. أصعد في واحد لأهبط بالآخر. كان الأمر جديداً بالنسبة لشاب لم يتعود في بلده على المشي في شوارع صاعدة وأخرى هابطة. القاهرة منبسطة، أو كانت منبسطة حتى صار المقطم مسكناً ومتنزهاً. مشيتُ حتى وصلتُ إلى شارع الحمرا فقطعته ذهاباً وإياباً وبين الحين والآخر أختار مقعداً في مقهى على الرصيف أمارس منه متعة الفرجة على المارين وبخاصة المارات. لم أمل الفرجة وقتها ولم أملها في أي وقت حتى صارت هواية، وهي الهواية التي حرمت على الشباب في مصر بذريعة أن مقاهي الأرصفة المنتشرة في أحياء وسط القاهرة لا تستقبل إلا كبار السن من المتقاعدين، هؤلاء يحق لهم وحدهم زيارة هذه المقاهي والفرجة على الناس.

تطورت علاقتي براس بيروت مع تطور أسباب السفر إلى لبنان ومُدد الإقامة ومع انتقال أصهاري للعيش فيه ومع طبيعة عملي الجديد ومع تقلبات الحرب الأهلية اللبنانية. توثقت علاقتي بهذا الحي كما لم تتوثق بحي آخر في أي مدينة من المدن العديدة التي مررت بها فمكثتً أياماً أو شهوراً أو في مدن عشت فيها سنيناً. معالم كثيرة اختفت في واقع الأمر أو تغير دورها واختلفت وظيفتها أو غابت موضوعاً وبقيت شكلاً ولكن استمرت في الذاكرة تحيا وتتعمق. غريبة علاقتي بها ومشاعري تجاهها. تغيرت شخصية شارع الحمرا إلى غير ما أحب ولكني ما زلت لا أقوى على مغادرة بيروت في نهاية أي زيارة دون أن أمشيه في رحلة معتادة، رحلة الذهاب والإياب، أمشي متحسراً ولكن أمشيه.

                                                                         *           *           *

ربطتني بالحي بشكل خاص ثلاثة معالم بارزة، ثم غابت. ربطني به بيت صهري في بناية تقوم عند نزلة البيكاديللي. ربطني أيضاً فندق البريستول عند بداية النزلة ونهاية الطلعة التي سميت باسمه فصارت طلعة البريستول. كنت إذا نزلتُ عند أصهاري بالبيت زرت الفندق مرتين باليوم الواحد، وإذا أقمت بالبريستول مررتُ على بيتهم مرتين باليوم الواحد. كان إفطار البريستول نعمة لا أحّرم النفس منها وكانت جلسة الشعر في بيت أبو ريشة نعمة أخرى لا أحرم العقل والقلب منها. غاب الأهل فغاب البيت. ثم تعبتْ بيروت فغاب البريستول. كانت جريدة السفير، وهي الرابط الثالث، تقع على بعد أمتار من الاثنين، من البريستول ومن بيت أصهاري. هناك في مبنى الجريدة كنت ألجأ لمكتب طلال سلمان لأسمع عن لبنان والعرب ما يثلج الصدر وما يدميه. وإذا تأخرتُ في طلب اللجوء وجدته في صالة البريستول مع ابنه أحمد في انتظار اصطحابي وثلة من نجوم الإعلام والفكر والفن لسهرة واجبة ودورية في فندق الفاندوم، أحد أهم معالم الحي.

                                                                         *           *           *

على الكورنيش نفسه يقوم فندق الريفيرا، الفندق الذي استقبلني في أول زيارة لبيروت وأنا في طريقي إلى الهند قبل أربعة وستين عاماً، ويقع عليه أيضاً فندق الفاندوم الذي احتكر استضافات طلال سلمان لي على امتداد علاقتي به خلال أغلب سنوات عمر جريدة السفير، وقام عليه فندق السان جورج الذي نزلنا فيه هيكل وأنا في ختام رحلتنا الطويلة التي أخذتنا إلى غالبية الدول العربية قبل سبعة وأربعين عاماً. هناك في السان جورج جرت معظم لقاءاتنا بنساء ورجال الطبقة السياسية والإعلامية اللبنانية، على نفس هذا الكورنيش كان يقع فندق الكارلتون وكان غير مكتمل البناء والتجهيز وتشغل إحدى الميلشيات الطابق الأرضي وربما شغلت طابقاً آخر أعلى. الغريب في الأمر هو أن في هذا الفندق عُقدت أهم المؤتمرات والندوات التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية أحد صروح رأس بيروت الباقية حتى اليوم، وفيه وقع التعارف بين المئات من المفكرين العرب، وفيه قمنا بتدشين عشرات المشروعات الفكرية العملاقة وأقمنا علاقات شخصية ازدهرت على مر السنين أو بقيت بعنفوان نشأتها إلى ساعة كتابة هذه السطور.

                                                                         *           *           *

لا يفوتني وما نزال عند كورنيش راس بيروت أن أنوه بدهشة بريئة أسعدتني ثم لازمتني لعدة سنوات. إذ دعاني صديق لبناني لعشاء بمطعم يلدزلار المطل على الكورنيش. أذكر أنني عشت فترة طويلة أحكي لأهل مصر عن هذه الأمسية التي شهدت بالاستمتاع الكامل والمتواصل اصطفاف ستة وسبعين صحناً على مائدة اتسعت دائماً لما لا يقل عن ستة ضيوف. لم يتكرر صنف ولم يتوقف النادل عن تعويضنا عما ينقص بالطازج والساخن وعند منتصف الليل تعود المائدة فتزدان بأصناف المشويات تتويجاً ثم بالحلوى توديعاً. ذهبتُ قبل سنوات قليلة من باب الفضول لا أكثر إلى الكورنيش أبحث عن المطعم لم أجده مثل أشياء كثيرة لم تعد توجد وأصدقاء أعزاء انتقلوا إلى أماكن أخرى. غابت مكتبة ودودة وغاب مقهى تاريخي شهد الكثير من دورات الجدل انتهى أحدها على ما أعلم متبلوراً في شكل مؤامرة نُفذت في بلد مشرقي نظاماً سياسياً محل آخر استنفد طاقته. أذكر أنني سمعت تفاصيل عن الجدل الذي دار في المقهى الشهير بشارع الحمرا وعن خفايا المؤامرة من مدبريها خلال لقاء في السان جورج.

                                                                         *           *           *

خلتْ رأس بيروت من بعض أجمل ما ومن كانت تحتضنه فاحتضنته ذاكرتي بكل الحب.

* كاتب ومحلل سياسي مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.