الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

‘‘فيلوديموس الجدّاري’’: شاعرٌ سوريّ حفظ بركانُ فيزوف أعماله الفلسفية

تيسير خلف *

لو لم تُسعف الأقدار الشاعر والفيلسوف السوري ‘فيلوديموس’ (110 – 30 ق.م)، المولود في مدينة ‘‘جدارا’’، وهي “أم قيس” الحالية، شمالي المملكة الأردنية الهاشمية، لَمَا تجاوزت معرفتنا به بضع قصائد منشورة في “أنطولوجيا بالاتين”، المكتشفة في مكتبة هايدلبيرغ (جنوبي غربي ألمانيا)، عام 1606، وإشادة عابرة به من جانب الخطيب الروماني الشهير “شيشرون”.

ولكنّ الاكتشاف المهمّ، في القرن الثامن عشر، لمعظم تراثه الفكري، في ما اصطُلح على تسميته “فيلا البرديات“، في مدينة هيركولانيوم المدفونة تحت حمم بركان فيزوف (عام 79 ميلادي) (https://ar.wikipedia.org/wiki/ثوران_جبل_فيزوف_سنة_79)، أضاء على الجانب الفلسفي المهمّ لهذا المثقف السوري الناطق باليونانية.

والحقّ أن مدينة جدارا، المتربّعة على منحدر جبلي يشرف على بحيرة طبريا من بعيد، جديرة بأن تُدرَس وتُسَلَّط الأضواء عليها، كونها أنجبت هذا العدد الكبير من الشعراء، والفلاسفة، والخطباء، الذين تنفّسوا في فضاء الحضارة الإغريقية وتفاعلوا معها إيجابياً، وأكسبوها روحاً شرقية، بدءاً من الفيلسوف الكلبي مينيبوس (الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد)، والشاعر العظيم ميلياغروس (من أبناء القرن الثاني قبل الميلاد)، والفيلسوف الساخر أوينوماوس (القرن الثاني الميلادي)، الشهير بسخريته من آلهة الأولمب، إلى خطباء مثل ثيودوروس (من القرن الأول الميلادي، وأستاذ الإمبراطور طيباريوس)، وأبسينيس (من القرن الثالث الميلادي، ومستشار الإمبراطور مكسيميانوس).

من الإسكندرية إلى روما:

بعد مغادرته مدينته ‘‘جدارا’’، أمضى ‘فيلوديموس’ حوالي أربع سنوات في الإسكندرية، ينهل من أكاديمياتها، ويتعلم من فلاسفتها وشعرائها، وهناك تعرّف إلى الفيلسوف السوري من فلسطين ‘‘أنطيوخس العسقلاني’’ (168 – 125 ق.م)، معلّم “شيشرون”، والذي حثّه على التوجّه إلى “أثينا” لدراسة الفلسفة الأبيقورية في منابعها. وفي أثينا تعرّف إلى أستاذه ‘‘زينون الصيدوني’’ (150 – 75 ق.م)، الفيلسوف الرواقي الشهير، وهو غير الفيلسوف الرواقي الأشهر ‘زينون’ من كيتيوم (334 – 262 ق.م)، اللذين عادةً ما يقع الخلط بينهما عند الكثير من الدارسين العرب.

رحل ‘فيلوديموس’ من أثينا إلى روما بسبب وفاة أستاذه ‘زينون’، على الأرجح، وارتبط بصداقة مع السيناتور الروماني “بيزو” (101 – 43 ق.م)، حيث تحدث عنه “شيشرون”، من دون أن يسمّيه، كـ”رفيق بيزو الدائم، منذ أن سعى لتمثُّل الفلسفة الأبيقورية القائمة على المتعة كهدف للحياة”. وهنا يشيد شيشرون بـ ‘فيلوديموس’، “الرجل النبيل وزارع الفنون، ومُدخِل الفلسفة الأبيقورية إلى روما، والشاعر الأنيق والبارع للغاية”.

فيلا البرديات:

قبل اكتشاف “فيلا البرديات”، لم يكن معروفاً أن ‘فيلوديموس’ عاش أو درس في نابولي وكمبانيا، ولكنّ اكتشاف الفيلا أتاح الاطّلاع على فترة من حياة شاعرنا الفيلسوف، هو وتلميذه السيناتور “بيزو” في هذا المكان المخصّص لعليّة القوم، حيث جمع دائرة من الأصدقاء الأبيقوريين في هذه الفيلا الباذخة، على حافّة بلدة هركولانيوم المنكوبة بالبركان. وثمّة اعتقاد واسع، مبنيّ على أدلّة وجيهة، أن هذه الفيلا تعود ملكيتها للسيناتور “بيزو”، إذ عُثر على تمثال له فيها، إضافة إلى أن عائلة “بيزو” لديها ممتلكات واسعة في المنطقة.

أمّا البرديات، والتي تمثّل جميع الأعمال الفكرية تقريباً لشاعرنا ‘فيلوديموس’، فقد خُزّنت على رفوف في غرفة صغيرة من دون أثاث، وبعضها محفوظ في خزانة مغلقة في المكان، والبعض الآخر على طاولة للدرس، إضافة إلى وجود بعضها في صناديق معدّة للنقل عُثر عليها في أماكن شتّى من الفيلا. وهو ما قد يشير إلى أن هناك مَن حاول أن ينقل هذه البرديات خارج الفيلا قبيل وقوع كارثة بركان فيزوف.

800 بردية:

تتكوّن مؤلّفات ‘فيلوديموس’ من 800 بردية ساهم الرماد البركاني في الحفاظ عليها، رغم تفحّمها، وهذا أحد أسباب تلف الكثير منها حينما حاول الذين اكتشفوها فتْحَها في القرن الثامن عشر، غير أنهم تنبّهوا لذلك وتعاملوا معها بطريقة احترافية، إلى أن تطوّرت تقنيات البحث والتنقيب والدراسة.

وقد أسفرت عمليات الترميم والقراءة بصعوبة بالغة عن نتائج معقولة، حيث إنّ كتابة نصوص ذلك العصر كانت لا تخلو من أخطاء ناتجة عن عدم وجود علامات ترقيم، أو فصل بين الكلمات، وعدم وجود نظام لترقيم الصفحات. ولذلك فإن الطبعات الصادرة في ذلك الوقت لأعمال ‘فيلوديموس’ لا يمكن الوثوق بها، نظراً للأخطاء الكثيرة الناتجة عن تجرّؤ محرّري تلك الفترة على إحداث تغييرات في نصوص تلك النسخ، وسدّ الفجوات، والإمعان في تفسير النتائج أكثر ممّا هو مطلوب. ولعلّ أبرز الأخطاء هو عدم تمييزهم بين رأي ‘فيلوديموس’ وآراء معارضيه الذين كان يردّ عليهم، والعكس صحيحٌ أيضاً.

أمّا الآن، فقد ساعدت التقنيات الحديثة على حلّ الكثير من مشكلات تلك النصوص، إذ إن استخدام العدسات والمجاهر في حقبة السبعينيات ساهم في إيضاح الكثير منها، بسبب الأحبار الباهتة وتمزُّق وتلف بعض الأجزاء، في حين ساهمت التقنيات الرقمية، اعتباراً من مطلع الألفية الثالثة، واستخدام الأشعة تحت الحمراء، في حلّ العديد من المشكلات المتعلّقة بالتسلسل، أو انتماء قطع البرديات بعضها لبعض، الأمر الذي سمح بقراءتها من جديد بشكل منهجي، وإعادة النظر بالكثير من الأفكار الفلسفية التي فُهمت خطأً في الطبعات القديمة.

ما تبقّى من قصائد:

ما تبقّى من شعر ‘فيلوديموس’ هو حوالي ثلاثين مقطوعة من “الإبيغراما”، حفظها لنا “فيليب التسالونيكي” في القرن الأول الميلادي، والتي اقتبستْها عنه “أنطولوجيا بالاتين” في القرن العاشر الميلادي، الأمر الذي ساعد على حفظها لنا إلى هذا اليوم.

وبات من المؤكّد أن النزعة الشهوانية التي ميّزت بعض قصائد ‘فيلوديموس’، هي تعبيرٌ عن فلسفته الأبيقورية التي تمجّد اللذة، ومن ذلك قصيدته “لا أريد البنفسج”، حيث يقول:

“لا أريد بعد الآن بنفسجاً أبيضَ

لا أريد للقيثارة أن تعزف

ولا أريد نبيذاً مشوباً بالخدر

ولا بخوراً يحترق على موائد الليل السورية

لا مزيد من سهرات تنتهي بساقطةٍ عطشى في سريري

لا مزيد!

أبغض كل هذا الجنون

ائتوني بأزهار النرجس، واتركوني أعزف على الناي وحدي

عطّروني بالزعفران

اسقوني نبيذاً منعشاً

وزوّجوني بعذراء!”.

وثمّة قصيدة تمثّل دعوة لصديقه “بيزو” إلى عشاء، بمناسبة عيد ميلاد “أبيقور”، الأمر الذي حفّز بعض الدارسين على إعادة قراءة قصائده بعين الفلسفة الأبيقورية. وهناك قصيدة شهيرة ملغزة له، تشير إلى نزعته الإنسانية، علماً أن عبارة “ديمو” تعني الإنسان باللغة اليونانية، و”فيلو ديمو” تعني محبّ الإنسان، حيث يقول مُعدّداً أسماء جُزُر ومدن عديدة:

“وقعتُ في حبّ ديمو من باخوس

وليسَ هذا أمراً غريباً،

ثمَّ أحبَبْتُ ديمو من ساموس

وليسَ هذا أمراً كثير الأهمية،

وللمرّةِ الثالثة أحبَبتُ ديمو من ناكسوس

وهنا أصبحَ الأمرُ أكثرَ من مجرّد مزاح،

وفي المرّةِ الرابعةِ أحبَبتُ أيضاً ديمو من آرغوس،

وهكذا، فالقدرُ وحده أطلقَ عليَّ اسمَ فيلوديموس

فأنا بحاجةٍ ملحةٍ دائماً لديمو؟!”.

أهمية بالغة:

على الرغم من أن ‘فيلوديموس’ لا يدّعي أنه صاحب أفكار فلسفية أصلية، إلّا أنه حافظ على أفكار معلّمه ‘‘زينون الصيدوني’’ وشرحها بشكل ممتاز، حيث يعد ‘فيلوديموس’ المصدر الأساسي عنها. وهذا لا ينتقص من مكانته، فالكثير من الفلاسفة العظام ما هُم إلّا شُرَّاح لأفكار أساتذتهم، وعلى سبيل المثال، فإنّ معظم مؤلّفات الفيلسوف السوري الشهير ‘بورفيريوس’ هي شروحات لفلسفة معلّمه “أفلوطين”.

أمّا الأهمية الشعرية لـ’فيلوديموس’، فهي أهميةٌ لا شكّ فيها، ولكنّنا لا نستطيع أن نكوِّن فكرة حقيقية عنها بسبب ضياع معظم أعماله التي توصَف بالشهوانية، واقتصار ما نعرفه على مختارات انتُقيت بعناية من جانب شعراء آخرين، خضعت لقيم ومفاهيم العصور المتلاحقة، والتي كانت في معظمها معادية للأبيقورية.

* كاتب وباحث وروائي فلسطيني

المصدر: العربي الجديد

التعليقات مغلقة.