الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الانتحار العربي الجماعي؟

واسيني الأعرج *

العرب ينتحرون جماعيا مثل الحوت عندما ينفر الأمكنة المائية ويندفع نحو السواحل حيث الموت والجفاف. وعلى الرغم من محاولات إنقاذه، فلا يقبل إلا الانتحار.

هل هو زمن كان وانتهى قبل أن ينفتح على زمن آخر؟ هل نموذج العربي كما فرضه الغربي بفعل الجبر التاريخي بعد الحرب العالمية الأولى وتعرض أرضه للتفتيت والتقسيم، وتكوين كيانات غير مدروسة ومفروضة، يتعرض اليوم بدوره للنهايات واستنفاد طاقته. هل هو انتهاء حقبة، وظهور حقبة جديدة تغيرت فيها سبل المصالح؟

في البداية بدت لنفس القوى، بعد الحرب العالمية الأولى، ضرورة تفكيك البنية العربية التي حمتها الدولة العثمانية ومنع تكون قوة عربية على الأرض الشاسعة التي ليس سهلاً مراقبة دولتها المركزية في موازاة مشروع “دولة إسرائيل” التي كانت في طور التكوين العنيف، وفي حاجة إلى حماية إنكليزية وغربية عموماً. وهو ما حدث.

لكن على الرغم من التقسيمات التي أعقبت ما سمي بالثورة العربية في 1918، تكونت مراكز نواة لدول متفرقة، لبنان، سوريا، الأردن، العراق، فلسطين، ظل يجمعها عربياً شعور داخلي، تم تدميره داخلياً بواسطة أنظمة نفذت ما طُلب منها، لكنه استمر في عمق الشعوب العربية التي ظل شعور تاريخي وثقافي وديني يجمعها. وعجز الغرب الاستعماري أن يدمر البنية الشعبية الداخلية التي هي ثمرة مكونات التاريخ في معناه الأكثر اتساعاً.

وعلى الرغم من الانكسارات والهزائم المتواترة، ظلّ هذا الإحساس قائما حتى دعمته حرب تشرين الأول/ أكتوبر التي منحت العرب أول الانتصارات الرمزية وحطمت خط بارليف، وكسرت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يهزم. لم يكن مهماً أن هذا الانتصار أجهض محلياً وعربياً، لأن فعل الانتصار الرمزي كان مدهشاً وهو ما فتح أعين الغرب الاستعماري على أن التقسيمات لم تحرم العرب من العودة إلى بؤرة الوحدة المهددة لإسرائيل.

التعاطف الشعبي إبان حرب الخليج، مع العراق، بغض النظر عن دكتاتورها، بيّن قوة هذا المدّ الشعبي الذي كثيراً ما أجبر الأنظمة على مناهضة أسيادها.

الإحساس بالحيف والظلم كان طبيعياً. أن تتحالف الكرة الأرضية كلها ضد بلد واحد هو العراق، كان لابد أن يورث تعاطفاً شعبياً محلياً وعالمياً كبيراً ولو من الناحية الرمزية إذ اتضح أن خلفية الاعتداء لم تكن حماية بلاد الكويت المُعتدى عليها، لأنّ الجهاز الأمريكي الحاكم الذي يعرف جيداً غطرسة وأطماع الدكتاتور العربي وغباءه، هو من شجع، من خلال سفيرته في بغداد، على التدخل. ونسي الدكتاتور العربي أن الرهانات المصلحية والنفطية ضخمة وحيوية لكل النظام الرأسمالي، ولا يمكن التسليم فيها.

هذا التحلل ليس وليد اللحظة ولا بسبب الربيع العربي، ولكنه وليد نصف القرن الأخير الذي وضع البحيرة النفطية العربية كلها تحت سلطان أمريكا والغرب الاستعماري. فمن استفاد في النهاية من حرب الخليج الأولى والثانية وتبعاتها؟ من استفاد من جريمة البرجين التوأمين؟ ليس العرب بكل تأكيد.

أخطر شيء حدث هو أن النسيج العربي الشعبي قد تمزقَ بشكلٍ كبير وأصبح العربي يخاف من العربي، والعربي يكره العربي. يحتاج الكويتيون مثلاً إلى زمن آخر لكي ينسوا اعتداءات صدام وجيشه وانعكست ردة هذه الفعل حتى على الشعب نفسه. يحتاج الفلسطينيون إلى قوة خارقة لكي ينسوا الخيانات العربية ضد قضيتهم التي استثمرها الحكام العرب زمناً طويلاً في خطاباتهم أمام شعوبهم. وما ينشأ اليوم بين الشعبين المغربي والجزائري في ظل العلاقات المتوترة، ليس بعيداً عن هذه المشاريع. فقد انهار العرب نهائياً كمشروع وبدأ التمزق العميق يتحول إلى حقيقة.

مات الكثير من المعتدين والكثير من المُعتدى عليهم، وبقيت الأحقاد هي سيدة الوضع. عندما نتأمل اليوم مشهدية ما حدث نُصاب بالرعب الداخلي. لم تبق أي دولة عربية في منأى من التحلل.

الدول التي كان يمكن أن تشكل توازناً مع إسرائيل تنهار الآن بسبب أنظمة حكم غير ديمقراطية، ولكن أيضاً بخيارات دولية مسبقة وفق حسابات تلعب فيها المصالح الاستراتيجية الدور الحاسم.

الربيع الذي بدأ كفجوة من نور سرعان ما أُجهض وتحول إلى قنبلة موقوتة استبيح بها كل شيء، بما في ذلك الكيانات الخاصة. الخارطة العربية اليوم مشتعلة، وحتى مستقبلها الوجودي على قرني عفريت. واستبيحت الأوطان العربية التي يتم تدميرها بمسؤولية الأنظمة والغباء السياسي والأحقاد المبطنة والتيارات العدمية لدرجة أن أصبحنا اليوم نتساءل: ماذا سيرث المنتصر في هذه الحرب.

حروب يتضح كل يوم أكثر أنها حروب إنهاك للمال العربي، ولن يكون فيها منتصر ومنهزم في ظل العمى السياسي، لأن المنهزم سينتهي حتماً، والمنتصر سيرث الخراب، قبل أن تخرج من صلبه فرق موت نائمة، ستتوالد بسرعة أكبر في ظل موت الدولة الناظمة، لتُجهز على ما تبقى من حياة في أرض كان اسمها ذات زمن، بلاد العرب.

في كل أرض عربية خزان، طائفي، إثني، عرقي، جهوي، لغوي، ديني، اجتماعي، سينفجر اليوم أو غداً، ويمكن تأخيره أو تسريعه بحسب مصلحة المتحكم في رأس الخيط. مصر، الجزائر، السعودية، سوريا، اليمن، السودان، ليبيا، المغرب، العراق، الكويت، البحرين، وغيرها إذ لا يوجد بلد عربي واحد بعيد عن مشاهد القيامة التي تلوح في الأفق.

سيشتعل هذا الخزان في المدى القريب أو المتوسط في ظل المستقبل المسدود، لأن الحلول العسكرية غير مضمونة الجانب، على الناس أن يشعروا ببعض الحق والعدالة في حياتهم قبل أي شيء آخر. ستتعدد الحروب العربية، التي هي في الجوهر حروب أهلية مُقنَّعة، مدارة من الداخل والخارج، ستتعرض هذه الدول إلى المزيد من الانهيار. لأن الحروب المستديمة تدفع بالبلد الواحد إلى التشظي والتفكك الكبيرين.

لم يعد حتى حل التقسيم ممكناً ولا حتى النموذج اليوغسلافي إلا برعاية دولية حقيقية كما حدث في سايكس- بيكو. لأن النموذج المرتسم لمصير العرب هو الصوملة. مجموعات تتقاتل، وكل واحدة منها ترفع لواء الأحقية والجدارة في الحكم، وهي متوازية القوى، مما سيؤدي حتما إلى المزيد من التدمير والانتحار، وطول عمر هذه الحروب، ما دام النفط سيظل يتدفق في أنابيب الشركات النفطية الضخمة، بأثمان بخسة، ولا يهم من يبيعه من المجموعات المتناحرة.

* كاتب وورائي جزائري

المصدر: القدس العربي في 05 كانون الأول/ ديسمبر 2014

التعليقات مغلقة.