الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الآلة صارت إلهاً.. رحم الله “شارلي شابلن”!

نصري الصايغ *             

خلُصت قمة المناخ إلى الفشل. الكرة الأرضية مهددة. حدث ذلك من زمن غير بعيد. التلوث هو نتاج قرن واحد، انتقل فيه الإنتاج من جهد يدوي وآلي بدائي، إلى صناعة بنت قلاعها على اكتشافات العلم. لم يكن العلماء في ذلك القرن، على معرفة ودراية، بأن العلم، سيكون منصة للرأسمال، وسيكون خطراً كبيراً على الكرة الأرضية.

خرجت قمة المناخ بمعجزة تأجيل الكارثة. لم تنفق مالاً، أقله نظرياً، إلا لتعويض ما خسرته الدول الموبوءة بالفقر. والفقر ليس صناعة انسانية. الفقر هو ابن الظلم. والظلم أقوى من كل دعاوى التراحم والأنسنة. الرأسمالية، هي لا اخلاقية بالمرة. الجيل الراهن عالمياً، هو جيل لا أخلاقي. الأخلاق تخترع يوتوبيات هزيلة وهشة. الأخلاق افيون. البديل هو السياسة. السياسة ليست بحاجة الى قيم واخلاق. السياسة ايضاً، ليست ما يقوله السياسيون، لأنهم لا يقولون شيئاً، حتى عندما يقولون أشياء كثيرة. الواقع يملي على السياسي أن ينخرط في مسار الأقوياء، ولا أحد أقوى من المال، والرأسمال. لذا، حاول “الله” في رسله، النهي عن عبادة المال. خسر الله المعركة. المال أولاً، والله… ضع الكلام المناسب.

السياسة والأخلاق ضدان. تأكدوا من سياسيي لبنان، أموالٌ ونفاق، زواج حرام وزواج متعة وزيارات ليلية وارتكابات لا أخلاقية؛ مصير البشرية صار أكثر سواداً منذ بدايات القرن العشرين. قبل ذلك، كان المناخ مُصاناً. الأرض كانت هي الحاضن والمانع. لكن مع الانتقال إلى الصناعة، تعملقَ المال، وغاص في زبالة الاخلاق. الصناعة كانت استعباداً للعمال وسبب شقائهم وجوعهم وأمراضهم. الآلة صارت إلهاً. الانسان صار خادماً وله الفتات وصار الموت بالتقسيط. انها جلجلة بلا قيامة.

أول من تنبأ وفتح أعين الناس على مصير الإنسان في عصر الرأسمالية، هو العبقري “شارلي شابلن”. الفنانون أصحاب رؤيا. فيلم الأزمنة الحديثة يشق هذا الليل الأسود. كشف المستقبل المظلم للبشرية. قليل من الذاكرة. شريط ينبئ بتحويل الإنسان إلى شيء. لم يحدث ذلك في أي عصر من العصور. صحيح أن الملوك والقادة و”الأنبياء” الكذبة، سَخّروا الإنسان واضطهدوه. لكن الرأسمالية، تقوم بتحويل الإنسان. بتشويه آدميته. باعتباره مادة بلا روح. عومل كسلعة. لم يصل إلى الكفاف.. الفيلم أدهشنا، عندما تحول شارلي إلى آلة بشرية تنافس الآلة المنتجة. الرأسمال أولاً، والإنسان.. فليذهب الى النسيان.

مستقبل البشرية مظلم إنسانياً. كنا أرضا محروسة من بشر. المستقبل العولمي هو بشر من دون أرض.

قيل إن مؤتمر المناخ في شرم الشيخ، كان فاشلاً. من كان يظن أنه مؤهل للنجاح، غشيم وغبي. أريحية عمالقة الظلم الرأسمالي، تفتقت عن قليل من المال لمعالجة كارثة كونية. الأرض، كي تنجو، بحاجة إلى أكثر من “شروى نقير”. لا يهم الرأسمالي فقر الفقراء. والفقر، ليس وليد الاجتياح العولمي للكوكب، بل لأن آلهة المال تعاملوا مع البشر كآلات فقط. الآلة مصانة ومدعومة وذات قيمة عليا. أوحى ذلك للفلاسفة ان يرفعوا شعار “يا عمال العالم اتحدوا”. اتحدوا ضد من؟ ضد الرأسمالية المتوحشة التي تمارس عقيدة الربح المستدام والمتنامي والجموح.

بشّرت الرأسمالية، بالبحبوحة، بالتنعم، بالتقدم، بالاكتشافات العلمية، باختصار الزمن، وجعله طيعاً. لم تُشر مرة إلى عدالة ومساواة وتنمية. لم ترتكب فضيلة إنسانية. الرأسماليون باتوا وحوشاً مُدججين بعطور المال وطمع الامساك بالمستحيل وتطويعه. من كان يعلم ان الرأسمال سيغزو القمر، ويعسكر الفضاء، وينجب دولاً، قامت وتقوم على تأسيس اخلاقيات الجرائم والمذابح والمجازر. هتلر الرهيب، قزم صغير، امام ملوك المال. هذا العصر الذي شهد فائضاً في الاختراعات والانجازات، وفائضاً في الانتاج، خلّف معه، مئات الملايين، بل آلاف الملايين من الفقراء والجائعين، حتى في بلادهم الثرية والفاحشة الإنفاق.

الفقر كان موجوداً باستمرار. تعاملوا معه كآفة. سعوا إلى معالجته. الفقر اليوم، في زمن الرفاهية الفائقة والانفاق المذهل والتبذير المفرط، مصحوب بتنامي الفقراء بشكل مذهل ومخيف ومؤلم. العالم راهناً، ينتج سلعاً اكثر من المطلوب لإطعام كل سكانه بصورة لائقة. هو حرمانٌ متعمدٌ. وهذا الحرمان الاجتياحي، يشكل أرضية صالحة لانجاب الحروب والصراعات والعنف والفوضى.. ليس من مأساة اشد وطأة من الجوع المستدام وانعدام الافق (نعوم تشومسكي).

يشهد العالم، الذي تقدم بسرعة في مجالات الانتاج، فضيحة لا يمكن تصديقها. الرساميل تزداد والفقراء اكثر ازدياداً. الأرض، حبلى بالعطاء، وباستطاعتها اطعام الجميع، اذا توفرت العناصر الاولية للإنتاج. الفقراء يزدادون في معظم المجتمعات، وحتى في المجتمعات الديمقراطية الغربية.

المناطق الاكثر فقراً: اميركا اللاتينية، افريقيا جنوب الصحراء، وهؤلاء محكوم عليهم بالموت. ارقام الربحية مذهلة. وفقاً لأرقام “فوربس”، فإن أغنى عشرة أشخاص في العالم بلغت ثرواتهم حدود الـ 1500 مليار دولار في العام 2021.. و”يملك اغنى ثلاثة اشخاص في العالم. ثروة اضخم من الناتج المحلي الاجمالي الكلي، لـ 48 من البلدان الأكثر فقراً، وتتجاوز ملكية اغنى 84 شخصاً الناتج القومي الاجمالي لدول صناعية”. ان منطق عدم المساواة هو السائد. توزيع الفقر أسهل بكثير من توزيع الثروة. عفواً. الجملة غلط. من المستحيل توزيع الثروات. الأصح: تجميع وتكديس الثروات. وهذا وباء، تحتضنه الجماعات والديانات والمصارف ورجال الاقتصاد. الضمير والمال ضدان. القيم ورأس المال، نقيضان. موت مئات الملايين من الاطفال كل سنة، بسبب فقدان الطعام والمياه جملة انشائية، لا تثير شفقة او تمس احساساً. العالم تخثر وتعفن. كل ما يضيفه الرأسمال المعولم، هو إعادة إنتاج الفقر وتعميمه.

ما يُقال عن الفقر مريع وفظيع. شارلز ديكنز، يقول في كتابه “آمال كبيرة”، الصادر عام 1861، قولاً صادماً. “في هذا العالم الصغير الذي يعيش فيه الاطفال حياتهم.. لا شيء يمكن ادراكه بدقة اكثر، ولا الاحساس به بعمق أكثر من الظلم”. كم طفلاً يموت جوعاً كل يوم. لا عدَّاد قادراً على منافسة الموت الدائم. كل ما يهم اصحاب الياقات البيضاء، والرساميل المتنامية والباهظة الارقام هو “التنظيف الاجتماعي”. أي افساح الطريق، في كل مكان، للتوظيفات المالية. الرأسمال لا يعيش في بيئات فقيرة ابداً.

الإستدانة هي من أشد انواع البربرية الرأسمالية. الدَين تجارة مربحة مضمونة. القروض كذلك. ليس مهما أن تسدِد الديون، المهم دفع الفوائد. اترك اساس الدين.. “أعطني فقط حصتي كاملة من الفوائد”. هذا هو منطق المصارف.

والديون، ليست دواء للدول المصابة بعدم الانتاج والاتكال على الاسواق. لا خروج من الفقر، من خلال الاستدانة. ولعل ما يوجز هذا التبادل هو الآتي: صار الفقراء يُموّلون الاغنياء.

الاستدانة إرهاق للمدين وجائزة للدائن. البنك الدولي يعتمد قاعدة واضحة: “أنا أُقرض. وأنا أُقدم. وأنا أُنجز، وأنت تستدين”. مفهوم. هذه سرقة علنية. لا تصحيح للاقتصاد الخربان والزراعة السائبة ولا الصناعات المستوردة. ستبقى الشروط الاقتصادية، خارج ما يسمى التنمية.

اذاً، المأساة الانسانية، هي نتاج التوحش الرأسمالي، ونتاج آليات التعامل مع الدائنين. المصارف المركزية، أقوى من الحكومات. الأمر لرأس المال. السلطة في خدمته، اي أن المصارف في خدمة عباقرة المال.

الإشادة بالأنظمة الديمقراطية الغربية معيبة.. الرأسمالية، دين دنيوي تام ذو مسار اجتياحي، يمارس نشاطه المترامي القارات، بطريقة دكتاتورية لا نقاش فيها.. الإنسان هو رقم. الدولار واحدٌ أحدٌ ولا أحد سواه. رجال الحكومات مجرد ديكور مناسب للسلطات المالية، والاعلام يافطة التوحش الجميل، المقنع، الساحر.. والمنافق. الاعلام انتهى كوظيفة ذات صدقية. الاعلام حذاء ناطق في أرجل زعماء العالم المالي.

أحد رأسماليي لبنان، ابلغ اللبنانيين مراراً: “نحن نُطاع ولا نطيع”. الإمرة للمال. إنها فاشية مالية، بكل معنى الكلمة. والفاشية هذه، ستكون حتماً، الابن الشرعي لاجتياحات الرأسمالية. وعليه يتحول الإنسان الى آلة.

أخيراً، وباختصار، قيل ان هناك جنة وجحيماً. حظنا من هذا التصنيف، أن نكون في الجحيم. الرأسمالية دين مستدام لن ينتحر. ولا قدرة لأحد أن ينحره. الماركسية انهزمت. القوميات تقزمتْ. الاخلاق تعلبتْ.. الإنسان الجيد الآن، هو الإنسان المستهلك.

هل هناك أبشع من هذا المسار وإلى أين المصير؟

* مثقف وكاتب لبناني

المصدر: 180 بوست

التعليقات مغلقة.