الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الاغتيالات السياسية في عهد الأسدين تاريخ أسود

خالد المطلق *

تعدّ الاغتيالات السياسية نوعًا من أنواع الصراع السياسي، وهي الوجه العنيف لهذا الصراع؛ لأنها تعتمد على التصفية الجسدية، والهدف الأساس لمن يقوم في عملية الاغتيال هو إلغاء الآخر، لأنه لا يؤمن بالحوار.

عادة ما تكون أسباب عمليات الاغتيال أسبابًا عقائدية أو سياسية أو انتقامية، وهي تستهدف أشخاصًا محددين، يعتبرهم منظمو عملية الاغتيال عائقًا في طريق انتشار أوسع لأفكارهم أو أهدافهم، والاغتيالات مصطلح يوصّف عمليات قتل منظمة ومتعمدة، تستهدف شخصيات مهمة ذات تأثير قيادي أو سياسي أو عسكري أو فكري.

برزت الاغتيالات السياسية مع ظهور السلطة السياسية، وأصبحت مع مرور الوقت أسرع وأبسط وسيلة لإحداث التغيير السياسي. وفي كثير من الأحيان، ينظر من يقوم بعمليات الاغتيال إلى فعلتهم، كواجب تبرره حجج أيديولوجية، إذ يصور الضحية كطاغية أو كمغتصبٍ، ويصوّر قتله فضيلة لا جريمة، ومثل هذا التبرير الأيديولوجي للقتل قد يُعبّر عنه بصيغ سياسية أو دينية، أو بكلتيهما معًا، عبر شبكة من الإعلام المنظّم كثيرًا ما تكون وراءها دولة ما للتغطية على الجريمة، لأن اكتشافها سيعري من أمرَ بتنفيذها. وفي أغلب الأحيان يكون صاحب القرار بتنفيذ الاغتيالات ذا مكانة عالية في الدولة، قد تصل إلى مستوى رئيس الدولة، كما هو الحال في نظام الأسد الأب الذي مارس الاغتيال المنظم بطرق مختلفة، منذ انقلاب 1963 وتسلُم حزب البعث السلطة في سورية، حيث قام الأسد الأب باغتيال معارضيه أو من يشعر بأنهم يشكلون خطرًا عليه وعلى حكمه، من بداية استلامه وزيرًا للدفاع، وأصبح نظام الأسد يستخدم الاغتيال السياسي باعتباره جزءًا من السياسة العامة، وليس خارجًا عن النهج الذي يتبعه النظام، وجعل نظام الأسد الأب والابن الاغتيالات وسيلةً لحسم الصراعات داخليًا وخارجيًا، مستفيدًا من رضى القوى النافذة في المجتمع الدولي عن كل هذه الأفعال الإجرامية التي نفذها نظام الأسد ببرودة أعصاب، من دون أن يسأله أحد في العالم، ومن دون أن يُجرى تحقيق جدي في هذه الاغتيالات، لأن الوضع الدولي كان منظمًا ليقدم إليه كل ما كان بحاجة إليه لينجو، إذا علمنا أن الأسد الأب أقام نظامًا أمنيًا متكاملًا مع السياسات الإسرائيلية والغربية في المشرق، وكان لديه دعم سوفياتي وأميركي في الوقت نفسه، وتكامل وظيفيًا مع “إسرائيل”، وكان مغطى ماديًا من العالم العربي، لذلك كان غيابه سيهز التوازن الدولي في المنطقة العربية ككل، وهذا ما ظهر جليًا من خلال ما حصل للثورة السورية.

ولو أننا أردنا أن نحصي عدد الشخصيات التي اغتالها الأسد الأب والابن، طوال مدة حكمهم لسورية؛ لعجزنا عن الإحصاء، لأن الأعداد كبيرة جدًا، إذ كان أغلب المستهدفين من أصحاب الفكر والنفوذ والتأثير على المجتمع، حتى من كان مقربًا جدًا من الأسد الأب لم يسلم من بطش الأسد وابنه، وتم تصفيته بدم بارد، وهذا يدل على عقلية إجرامية منقطعة النظير، كان يعبّر عنها حافظ الأسد دائمًا في جلساته الخاصة بقوله: “من أراد سلطة أعطيناه، ومن أراد جاهًا وهبناه، ومن لم يرد أيًا منهما، فله إما القبر أو السجن”. وإذا أردنا أن نذكر أسماء أول من اغتالهم الأسد الأب من السوريين؛ وجدنا الكثير منهم، ولم يسلم من الاغتيال حتى أبناء طائفته، أبرزهم البرلماني السابق محمد سليمان الأحمد الشهير بـ “بدوي الجبل”، وهو ينحدر من قرية ملاصقة لقرية حافظ الأسد، الذي أمر حافظ أسد بتعذيبه عام 1968، حين كان وزيرًا للدفاع، وقد تمّ اختطافه وتعذيبه، ومن ثم ألقي في الشارع، ولكنه ظل حيًا يعاني الأمراض حتى وفاته 1981، ومن ثم اغتيال ابنه منير عام 1993، وهو متهم أيضًا بمحاولة اغتيال الوزير السابق د. أحمد سليمان الأحمد (شقيق بدوي الجبل) 1993 في بلغاريا، كما تم اغتيال اللواء محمد عمران في بيروت عام 1972، مع أن عمران كان شريكًا من ضمن آخرين في انقلاب عام 1963 الذي مكّن حافظ الأسد من أن يصبح رئيسًا في وقت لاحق، إلاّ أن وصوله إلى السلطة لم يكن كافيًا بالنسبة إليه إلا إذا أزاح خصومه ومنافسيه من شخصيات قوية وبارزة في البعث والجيش، وأيضًا اغتال الأسد الأب صلاح الدين البيطار، الذي يُعدّ واحدًا من أشهر الوجوه الدمشقية في السياسة السورية المعاصرة، فهو من مؤسسي حزب البعث، ووصل إلى منصب رئيس الوزراء، إلا أنه اختلف مع سلطة “البعث” في الستينيات، وصدر بحقه حكم غيابي بالإعدام عام 1966، لكنه كان قد فرّ إلى لبنان، ومن ثم إلى فرنسا حيث اغتيل عام 1980.

هناك أيضًا الكثير الكثير ممن قضوا اغتيالًا على يد الأسد الأب، منهم بنان الطنطاوي زوجة عصام العطار، التي قتلت بدم بارد في ألمانيا، عندما لم يجدوا زوجها في المنزل عام 1981، وكان اغتيال محمود الزعبي رئيس الوزراء قبل شهر واحد من وفاة حافظ الأسد هو آخر جريمة اغتيال سياسي في عهد الأسد الأب، لكن الأسد الابن تابع مسيرة أبيه، بل إنه فاق في الإجرام أباه، وتفوق عليه بعدد جرائم الاغتيال السياسي التي اقترفها، ابتداء من “نحر” محمود الزعبي رئيس الوزراء، قبيل وفاة والده بقليل، مرورًا باغتيال اللواء غازي كنعان عام 2005 الذي كان أحد أعمدة نظام الأسد الأب والابن، ومن ثم اغتيال اللواء محمد سليمان عام 2008 وكان مقربًا جدًا من الأسد الابن وحافظًا لأسراره، وأيضًا اغتيال اللواء جامع جامع عام 2013، واللواء رستم غزاله عام 2015 حافظي أسرار الأسد الأب والابن في فرع الأمن العسكري الخارجي في لبنان، ولا ننسى عملية الاغتيال الجماعي عام 2012 لمسؤولين مقربين من الأسد، بما عُرف بـ “خلية الأزمة”، وعلى رأسهم العماد حسن تركماني معاون نائب رئيس الجمهورية، والعماد داوود راجحة وزير الدفاع، وآصف شوكت نائب وزير الدفاع وصهر بشار الأسد، وقد حدثت في “مكتب الأمن القومي” معقل قيادة المخابرات السورية، وفي ظروف ما زالت حتى الآن غامضة.

هذا الغموض يُعدّ قاسمًا مشتركًا لكل عمليات الاغتيال السياسي التي نفذها الأسد الأب والأبن، إذ يكتنف الاغتيالات التي ينفذها نظام الأسد نوعٌ من الغموض وعدم توفر معلومات دقيقة أو تفاصيل عن هذه الأحداث، التي تقع غالبًا في وضح النهار، وفي أماكن يفترض أنها محصنة أمنيًا، يرافقها تبريرات رسمية دفعت كثيرًا من المحللين إلى التشكيك في تلك الروايات، وكانت هذه الاغتيالات نتيجة هواجس تراود بشار الأسد وأباه، خوفًا من الانقلاب عليهم، فكان الحل الناجع والسريع هو القتل، الذي مارسوه من دون كلل أو ملل ومن دون أي رادع، مضحين بأقرب الناس إليهم كي يبقوا في دائرة الحكم الذي دفع الشعب السوري الكثير من التضحيات لإسقاطهم منه.

لم يكتف الأسدان بالاغتيالات الداخلية، بل طالت أذرعهم في القتل معارضيهم من غير السوريين، وإذا استعرضنا ما قام به الأسد الأب والأبن من اغتيالات خارج سورية؛ وجدنا أن معظمها كان من نصيب لبنان الذي دفع سياسيوه المناوئون للأسد ثمنًا باهظًا، تمثل في اغتيال كثير منهم على يد الأسد الأب، وأضعاف عددهم على يد الأسد الابن، وعلى رأسهم كمال جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، الذي اغتيل عام 1977، وتبعه اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميّل عام 1982 قبل تسلمه مهام منصبه كرئيس للجمهورية اللبنانية، وفي عام 1989 تم اغتيال مفتي لبنان الشيخ حسن خالد، وفي نفس العام تم اغتيال الرئيس اللبناني رينيه معوّض.

بعد استلام الأسد الابن مقاليد السلطة، أخذت الاغتيالات في لبنان منحًى متصاعدًا، بدءًا من اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري وباسل فليحان في عام 2005 بانفجار ضخم في منطقة السان جورج في بيروت، لتبدأ سلسلة من الاغتيالات السياسية، وصل عددها الى إحدى عشرة عملية اغتيال، لأبرز معارضي الأسد، من سياسيين وصحافيين ورجال أمن، مثل (جبران تويني، وسمير القصير، والعميد وسام الحسن، وجورج حاوي…”، حيث تحسب جل هذه الاغتيالات على الطرف المناوئ للنظام الاسدي، وكان تنفيذ هذه الاغتيالات يتم على أيدي دائرة ضيقة حول النظام من ضباط النخبة المدربين، خاصة ممن ينتمون إلى المخابرات الجوية، وبعض حلفائه كـ “حزب الله”، وبعض الميليشيات لتنفيذ عمليات الاغتيالات.

هذا هو النظام الذي بُني على إرهاب الدولة المنظّم بكل أنواعه، متمثلًا في إرهاب الشعب، وقتل وتصفية حتى أقرب المقربين منه، لتكون الدماء هي إكسير حياته، ومن دون سفكها لن يستطيع أن يستمر، وهذا ما ثبت من خلال الثورة السورية التي مارس فيها هؤلاء القتلة هوايتهم في كل أشكال القتل، لكن هذه المرة بشكل جماعي، من خلال المجازر والقصف بكافة أنواع الأسلحة حتى المحرمة دوليًا، ومنها الكيمياوي الذي استخدمه أكثر من 112 مرة، في سابقة لم تحدث على مرّ التاريخ: أن نظامًا يقصف شعبه بغازات سامة تقتل الطفل قبل المرأة. ناهيك عن التصفيات الجماعية المرعبة في السجون والمعتقلات، التي أودت بحياة عشرات الآلاف من الأبرياء، وجرائم الاغتيال الفردي، التي طالت كثيرًا من المناضلين -فضلًا عن تغييب الكثيرين في سجونه- أمثال شبلي العيسمي، والشيخ وحيد البلعوس، والدكتور عدنان وهبة، التي تمت وسط صمت مطبق ومحاسبة معطلة من القوى الكبرى في العالم.

* عقيد ركن سابق، كاتب سوري مختص في الشؤون العسكرية والأمنية وقضايا الإرهاب

المصدر: جيرون في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر، 2018

التعليقات مغلقة.