الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

المستشرقة والعميلة البريطانية «غيرترود بل» (1868- 1926)

معقل زهور عدي

اسمها الكامل (“جيرترود مارجريت لوثيان بيل” Gertrude Margaret Lowthian Bell) (1868- 1926)، وهي ضابطة في الجيش البريطاني برتبة ميجور (رائد) في قسم المخابرات, أرسلت عام 1915 في مهمة رسمية للالتحاق بالمكتب التابع للمخابرات البريطانية في القاهرة, وهي باحثة في الآثار, والتاريخ, ومستشرقة تجيد الفارسية والعربية, لعبت دوراً هاماً للغاية في رسم حدود سايكس- بيكو, وفي تسويق السياسة البريطانية في المنطقة ( العراق, سورية, الجزيرة العربية) بل كانت طرفاً في صنع تلك السياسات بتقديم نصائحها وأفكارها التي تستند لمعرفة عميقة وخبرة بالجغرافية السياسية والبنية الاجتماعية والدينية- المذهبية والقبَلية لتلك البلاد التي سبق أن قضت فيها عدة سنوات من البحث والاستكشاف والدراسة منذ مطلع القرن العشرين كعالمة آثار قبل أن تعود اليها في مهمتها كضابطة مخابرات بريطانية .

وبسبب ثقافتها الرفيعة, وانجازاتها خاصة في العراق على صعيد بناء الدولة, بما في ذلك انشاء وتنظيم المتحف الوطني في بغداد, ونظرة بعض العراقيين الايجابية نحوها والتي ظهرت في جنازتها التي شاركت فيها فئات اجتماعية مختلفة في بغداد عام 1926 ” يطلق عليها العراقيون لقب خاتون وتعني بالفارسية المرأة النبيلة ” فقد ترددتُ في قبول حقيقة كونها عميلة للمخابرات البريطانية وكان لدي شك في أنه وصف غير دقيق وغير منصف, وربما كان ارتباطها بالخارجية البريطانية كمستشارة للشؤون العربية, لكني وجدت وصفا صريحا لعملها كضابطة برتبة ميجور في الجيش وفي جهاز الاستخبارات في جريدة الإيكونوميست البريطانية بتاريخ 7 أيلول/ سبتمبر 2006 .

وكمواطنة بريطانية فلا شك أنها قامت بخدمة بلادها بصورة مميزة, وما ذكره المقال في الإيكونوميست من اعتبارها بطلة قومية ليس من قبيل المبالغة, لكنها من وجهة النظر العربية تظل ضابطة مخابرات لدولة استعمارية تسللت إلى المجتمعات العربية لتعمل في تنفيذ مخطط لتقسيم واستعمار ونهب المنطقة العربية في نهاية المطاف .

لقد شكلت مع “توماس لورنس” أخطر ثنائي بريطاني استطاع اختراق القيادات العربية العليا في تلك المرحلة المصيرية وتوجيه تلك القيادات بفعالية فائقة وفق المصالح والمخططات البريطانية , حتى لم يعد يعرف كما قيل عن ‘غيرترود بل’ هل هي مستشارة الملك فيصل بن الحسين في العراق أم هي صاحبة التوجيه والآمر الفعلي في القصر الملكي ببغداد .

ولدت “غيرترود مارغريت لوثيان بل” في14  تموز/ يوليو عام  1868 في دورٍ هام بإنكلترا , في أسرة غنية, كان والدها واحداً من أهم ملاك مناجم الفحم في انكلترا, توفيت والدتها مريضة في الثالثة من عمرها, فلم تحظ بما يكفي من حنان الأم ورعايتها, لكن زوجة أبيها الثانية الباريسية “فلورنس أوليفيه” والتي كانت قائمة بإدارة المنزل منحتها شيئاً من الاهتمام وفتحت أمامها أبواب الثقافة الفرنسية إذ كانت ذكية, قارئة, وكاتبة مسرحية.

حدث أول تحول هام في حياة ‘غيرترود بل’ حين اختارت الدخول في جامعة أوكسفورد لدراسة التاريخ وكانت أول امرأة تقبل في تلك الجامعة, وحين نالت المرتبة الأولى على أقرانها في تخصصها أثبتت أن طموحها لم يكن ينقصه القدرة والموهبة لتحقيق الأهداف الكبيرة .

لكن التحول الخطير الذي رسم حتى النهاية مستقبل حياتها كان الالتحاق بالجيش البريطاني في قسمه الخاص بالتجسس, فما هي الأسباب التي تدعو ابنة الأسرة الغنية والتي نالت الشهادة الجامعية لإدارة الظهر للحياة المدنية السهلة والعمل في شتى الحقول المفتوحة أمامها والالتحاق بتلك المهنة القاسية التي لا تجذب اليها سوى فئة محدودة من رجال الأرستقراطية الانكليزية فضلاً عن النساء الأرستقراطيات؟

ليست الإجابة على ذلك اللغز سهلة لكن أحد التفسيرات الذي يمكن أن يقدم حلاً لذلك اللغز هو أن ذلك الطموح الغريب الممزوج مع الذكاء والخيال دفعها للرحلات نحو الشرق والذي ابتدأت به- ربما- كباحثة ومستكشفة وعالمة آثار متنقلة بين شمال سورية حيث التقت بـ‘لورنس’ أول مرة, ثم استانبول وطهران وخلال تلك الفترة التحقت بالجيش البريطاني الذي وجد أن ضم مستشرقة وعالمة آثار طموحة وذكية لجهاز المخابرات سيكون استثماراً جيداً في تلك المرحلة حين كانت الامبراطورية البريطانية في ذروة توسعها الاستعماري .

ومثلما نرى كيف أن “توماس لورنس” مستعد لبذل أقصى جهوده وتحمل أشق المخاطر في سبيل بريطانيا العظمى, نجد في ‘غيرترود بل’ ذات الحماس والاستعداد لتحمل المشاق غير العادية, وفي النهاية فهي ترضي طموحها المغامر المتمرد من جهة وولاءها العميق للتاج البريطاني ولوطنها من الجهة الأخرى, أما القيم الإنسانية والأخلاقية الأخرى فتتضاءل أمام المشاعر السابقة, وربما تجد ما يهدئها في نظرة الاحتقار لشعوب الشرق, أو السعي أحياناً لتقديم المساعدة والإنجازات الحضارية التي لا تتعارض مع مصلحة الهيمنة البريطانية بل تخدم تلك الهيمنة الاستعمارية بتغليفها بغلاف إنساني أو حضاري مثل إنشاء متحف بغداد.

وفي مطلع 1905 وضعت خطة لما سمته بمرحلة عمل تستهدف دراسة العادات والتقاليد الشعبية في الشرق. وفي الرحلة اكتشفت أسلوباً فريداً في جمع المعلومات؛ لا يهتم بمصدر المعلومة، فأهم المعلومات يمكن أن تحصل عليها من أتفه المصادر؛ نصيحة تعلمتها من ديبلوماسي مخضرم، وكانت أولى خطواتها في تجاوز الخط الدقيق بين البحث العلمي والجاسوسية، بين اكتشاف سر الغموض واستخدام الاكتشاف في إعادة تشكيل المنطقة، وهذا ما جعل شهرتها تلفت الانتباه بعد كتابها الذي خرجت به من تلك الرحلة “ الصحراء والمعمورة ”.

قدمت ‘غيرترود بيل’ للمخابرات البريطانية دراسات ديمغرافية واجتماعية للمشرق العربي كانت جزءاً هاماً من الأساس الذي وضعت بموجبه حدود سايكس بيكو, وكانت قد التقت باكراً بـ‘سايكس’ الانكليزي الذي اتفق مع ‘بيكو’ الفرنسي حول تقاسم المنطقة.

وتُظهر خرائط سايكس- بيكو كيف أن بريطانيا تمكنت من وضع يدها على مكامن النفط في العراق وميناء البصرة الهام, كما ضمت لأملاكها الإستعمارية فلسطين بموانئها على البحر المتوسط والقدس بكل رمزيتها التاريخية لدى الغرب, وضمنت للصهيونية حرية الاستيطان والتسلح تحت رعايتها, كما ضمنت حماية شرق قناة السويس التي ازدادت أهميتها التجارية العالمية, بينما تركت لفرنسا سورية ولبنان وأهم ما فيهما بالنسبة للدول الاستعمارية آنذاك هو الساحل المطل على المتوسط, لكن بسط بريطانيا النفوذ على فلسطين بموانئها “يافا” و”حيفا” منح بريطانيا موطئ القدم المطلوب على البحر المتوسط بحيث لم تعد بحاجة لبقية سواحل بلاد الشام.

وتظهر براعة الإنكليز وعمق تفكيرهم أيضاً في طريقة حكم البلاد المستعمرة, فبينما اصطدمت فرنسا منذ اللحظة الأولى لدخولها سورية عام 1920 بالوطنية السورية, واضطرت للكشف عن وجهها الإستعماري القبيح, قدمت بريطانيا للعرب في العراق ملكاً عربياً هاشمياً, ومملكة تبدو وكأنها سيدة مستقلة بينما تديرها المخابرات البريطانية من خلف ستار, بل إن أقوى ممثل للتاج البريطاني هناك كان سيدة انكليزية مثقفة تجيد العربية وتحفظ أشعارها وتخالط النساء والرجال ومشايخ البدو وتجار بغداد وكبار الساسة وضباط الجيش حتى أصبحت كواحدة منهم بينما كانت تشرف على كل صغيرة وكبيرة في القصر الملكي ببغداد، وأعني بها ‘غيرترود بل’.

بينما لمع نجم ‘لورنس’ مع بداية ما سمي بالثورة العربية الكبرى من خلال مهمته التي أوكلت إليه في التنسيق بين الشريف ‘حسين’ وأولاده من جهة وبين مكتب القيادة العسكرية للقوات البريطانية في عموم المشرق العربي ومركزها القاهرة, ثم في مرافقة الأمير فيصل في معاركه كمستشار شخصي حتى استيلاء الحلفاء على دمشق عام 1918.

فقد لمع نجم ‘غيرترود بل’ قبل ذلك من خلال الدراسات التي قدمتها مباشرة لمخابرات الجيش البريطاني, وشبكة العلاقات التي كونتها مع زعماء القبائل في الشام والجزيرة العربية والعراق وكذلك بعض الوجهاء المحليين وقد حرصت من خلال تلك الشبكة على كسب صداقتهم للدولة البريطانية بالمال حيناً وبالوعود حيناً آخر ممهدة بذلك لدفعهم نحو الاشتراك بالثورة ضد الدولة العثمانية والتعامل مع جيوش الحلفاء كمنقذ ومحرر وليس كمستعمر أجنبي.

في عام 1914 أرسلت ‘غرترود بل’ للعراق تحت مسمى رسمي كسكرتيرة للمندوب البريطاني “جيرسي كوكس”, ثم عادت ثانية للعراق لتعمل في المشروع البريطاني لاقامة ملكية هاشمية برئاسة الملك ‘فيصل’ بعد احتلال فرنسا لسورية وانتهاء المملكة العربية السورية بدخول الجيش الفرنسي دمشق عام 1920 ليتسلم حصته من اتفاقية سايكس- بيكو . وكان ذلك هو الانجاز الثاني والأهم الذي عملت من أجله بجهد كبير حتى قالت: ” لن أصنع ملكا بعد الآن, إنها مهمة صعبة “.

لكنها بقيت في بغداد بعد انتهاء مهمتها, هل وجدت في قصور بغداد نفسها كحاكمة آمرة ناهية لمملكة العراق فلم ترض أن تترك تلك السلطة والمجد؟

نعلم من تاريخ حياة ‘لورنس’ أنه بعد عودته لبريطانيا غرق في العزلة والكآبة, فهل كانت ‘غيرترود بل’ تتفادى ذات المصير حين لم ترجع لوطنها الأم؟

توفيت ‘غيرترود بل’ عام 1926 عن 56 عاماً, واضعةً بيدها حداً لحياتها فقد انتحرت بعد تناول كمية مميتة من المهدئات.

ماتت تاركة ورائها المملكة الهاشمية العراقية في مهب الريح التي ستأتي بعد نحو ثلاثين عاماً لتُبيد المملكة الهاشمية, لكن العراق باقٍ.

المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل

التعليقات مغلقة.