الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الشعبوية السورية.. مشروع بدون آفاق

معقل زهور عدي

ليس الكافر من لا يؤمن بآلهة الجمهور، ولكن الكافر من يتبنى تصور الجمهور عن الآلهة

والآلهة هنا هي آلهة اليونانيين (زيوس وهيرا وأثينا وأبولو وبيسدون وأفروديت …الخ ..) والقول للفيلسوف اليوناني أبيقور .

يمكن رؤية التيارات الشعبوية في كثير من دول العالم, ففي الولايات المتحدة الأمريكية صعدت الترامبية كتيار شعبوي ظهر بوضوح في مهاجمة الكونغرس عشية الانتخابات الأخيرة, وفي فرنسا هناك حزب الجبهة الوطنية اليميني بزعامة ماري لوبان وإلى يمينها العنصري ايريك زمور الذي يَعتبِر إظهار نزعته ضد الأجانب ورقته الرابحة لنيل الشعبية في فرنسا .

وفي تركيا أصبح التحريض على اللاجئين السوريين الخبز اليومي لبعض الأحزاب السياسية كطريق سهل لنيل الشعبية والصعود للحكم .

أخطر ما في التيارات الشعبوية أنها تمهد في الواقع للعنف والتعصب, وتغذية الانقسامات الاجتماعية, ولكي تبقى حية فاعلة فهي تلتقط من التاريخ باستمرار أسوأ ما في مخزون الذاكرة الجمعية من صور الفتن والحروب الداخلية والنظرة للآخرين كأعداء وتُهمل كل العناصر الايجابية والمشرقة كي يبقى الآخر شراً مطلقاً يستحق التعبئة ضده .

والخطر الكبير الآخر أنها تقف سداً بوجه السياسة العقلانية, وتجذب معها الجمهور الذي تضلله بالشعارات, وتحارب الثقافة والفكر والقيم الانسانية العليا التي توصلت إليها البشرية عبر تاريخها الطويل .

ترتدي الشعبوية أحيانا الرداء العلمانوي كما في تركيا, وترتدي أحيانا أخرى الرداء الإسلاموي- الطائفي, وشاهدنا في روسيا كيف ترتدي الشعبوية الرداء القومي أيضاً, وفي الولايات المتحدة ترتدي الشعبوية الرداء العنصري فهي ايديولوجية تُميز البيض واعتبار أنهم هم وحدهم الأمريكيون الأصلاء .

يترافق صعود الشعبوية مع تفاقم الأزمات الاقتصادية, وازدياد معاناة الطبقات الوسطى والفقيرة، وتنظر الطبقات المتحكمة بالاقتصاد والسياسة إلى الشعبوية كتيار يمكن أن يبدد طاقة الشعوب ويصرفها عن أهداف التحرر الاجتماعي .

ثمة من يعاتب المثقفين في سورية لابتعادهم عن الشعب, وهناك من يُحمِلهم نصيباً من المسؤولية في انحسار الطابع المدني للثورة السورية, كما أن هناك المشهد المحزن في انزياحات المثقفين نحو فضاءات طوائفهم, وكأن وجودهم خارجها كان طارئاً ومؤقتاً وشكلانياً.

ربما يحمل ذلك العتاب واللوم نظرة ضمنية تستبطن صورة المثقف الرائد, وربما يحمل أيضاً رغبة في البحث عن ضحية للفشل والهزيمة, لكن الأكثر ايلاماً وسوءاً أن يكون محاولة بدون عناوين لإزاحة الثقافة عن ساحة الفعل السياسي.

في المجتمع السوري المتصحر سياسياً لفترة تزيد عن خمسين عاماً, وجد على الدوام, إلى جانب كل التيارات الاجتماعية التي استطاعت الاستمرار في الحياة تيار الشعبوية السياسية.

تلتقط الشعبوية السياسية أفكارها من مزاج الجمهور, وحياته العادية, وبعض الأفكار التقليدية الأكثر انتشاراً, وتصوغ ذلك وتعيد انتاجه في مواقف سياسية من الأحداث والصراعات التي يشهدها المجتمع. هي لا تفكر في تصويب دفة تفكير الجمهور أو الاعتراض على مزاجه بل بالعكس فهي تُصعد ذلك المزاج دون التفكير في صحته أو خطأه ..وبسرعة تكتشف الشعبوية كم هي ناجحة في نيل رضى الجمهور, وبالتالي قادرة على اعتلاء التيار.

ويبرز المثقفون كأعداء محتملين للشعبوية, لكن عزلهم دائما سهل وفي متناول اليد لمن لا ينحني أمام التيار، وفي سورية تمتزج الشعبوية أحياناً مع الأنانية المفرطة التي عُرفت بها الطبقة السياسية السورية الناجية من الحملات المتلاحقة لتعقيم المجتمع سياسياً والتي نفذها النظام بكفاءة مشهودة.

تستفيد الشعبوية من خواء المجتمع من المؤسسات والهياكل الاجتماعية والثقافية المستقلة كالنقابات والجمعيات التطوعية والنوادي، بعد أن اخترق النظام كل تلك الأطر الاجتماعية والثقافية وأعاد انتاجها كي لاتكون أرضا صالحة لتكوين ثقافة اجتماعية مستقلة.

 ليس العيب في الشعبوية مسايرتها للجمهور, ولكن العيب أنها تجعل من تلك المسايرة سقفاً لها, وشيئاً فشيئاً تنحدر الشعبوية لتتبنى أكثر التوجهات غرائزية عند الجمهور.

هناك قول مأثور: ” الرائدُ لا يكذب أهله ” فالرائد الحقيقي يرضى بمعاداة الآخرين له ويتلقى سِهامهم في سبيل التمسك بالحقيقة وإنارة طريقها, ولو كان ذلك يُعرضه للنقد أو التهجم أو حتى العزلة لفترة من الفترات .

لاحقاً ربما يكتشف كثيرون أنه كان على حق, وأن إخلاصه واستقامته دفعته لإعلان رأي مخالف, أما الشعبويون الذين أحبهم الجمهور وتعلق بهم لأنهم فقط يرددون ما يخطر في نفسه بصوت عالِ فسوف تنكشف بسرعة طبيعتهم الهشة لكن بعد أن يُكملوا مهمتهم البائسة في الخداع ودفع الناس نحو المزالق الخطرة, وتفتيت اتحادهم وخلق العداوات بين أطراف الشعب, وبعث الأحقاد والضغائن وقوداُ لمركبهم الذي يسير بدون هدف حقيقي .

المصدر: ( كلنا شركاء )

التعليقات مغلقة.