الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

لاجئون في وطنهم فلسطين .. صامدون غائبون حاضرون منذ 1948

صقر أبو فخر *

في فلسطين، وبالتحديد في الأراضي التي سقطت في أيدي الحركة الصهيونية في سنة 1948، عاشت مجموعة كبيرة من الفلسطينيين من دون أن تحظى بالتغطية السياسية والإعلامية الملائمة، ومن غير أن تُدرَج في سياق قضية اللاجئين، ولم يتم تسليط النور عليها بوصفها مجموعة متميزة من السكان الذين صمدوا في أراضي 1948، مع أنهم أثاروا مشكلتهم مراراً بالتظاهر والكتابة والمطالبات القانونية.

لكن الاعتناء بهم ظل محدودًا، حتى في أوساط اللاجئين خارج فلسطين، باستثناء بعض الباحثين وقليل من الكُتّاب. وهؤلاء الذين دُمرت قراهم وظلوا في “إسرائيل” بعد أن لجأوا إلى بلدات أخرى، طُبّق عليهم “قانون أملاك الغائبين” حين تعلق الأمر بأراضيهم، وانطبق عليهم، في الوقت نفسه، قانون “المواطنة” حين يتعلق الأمر بالواجبات كالانتخابات أو دفع الضرائب. وقد اكتسب هؤلاء صفتين متطابقتين: الغائبون الحاضرون أو اللاجئون في وطنهم.

وفي ما يلي استعادة لحكايتهم المؤلمة التي ما برحت ماثلة في وعيهم حتى بعد مرور 74 سنة على النكبة.

بقي في فلسطين بعد نكبة 1948 نحو 110 آلاف شخص، ازدادت أعدادهم بالتسلّل في البداية، ثم بالتزايد الطبيعي حتى وصل، في سنة 1950، إلى نحو 160 ألفاً. وهؤلاء صاروا اليوم نحو مليون وثمانمائة ألف فلسطيني يحملون كرهًا الجنسية الإسرائيلية. وكان الهم الأكبر لهؤلاء مسألة الأمن أولاً، أي عدم طردهم من بلادهم؛ فخضعوا، في البداية، مرغمين للحكم العسكري الذي انتهى في 1/12/1966، ليعيشوا بعد ذلك في إسار قانونين جائرين، جسّدا سطوة الاحتلال الاستيطاني الإحلالي: قانون الطوارئ (1949) وقانون أملاك الغائبين (1950)، ثم قانون استملاك الأراضي الذي نصّ على إسكان هؤلاء المهجّرين في أماكن بديلة، والتعويض عن أملاكهم المصادرة.

وهكذا، صار هؤلاء مواطنين في دولةٍ تعلن عن نفسها أنها ليست دولتهم، بل دولة اليهود، وباتوا مجموعة بشرية غير مرحّب بها؛ أي، باختصار، مواطنون ناقصو الحقوق. وكان المطلوب من الفلسطيني آنذاك أن ينكر هويته القومية كي يؤكّد مواطنيته الجديدة إذا أراد أن يبقى في وطنه. ومن مفارقات تلك الفترة أن الفلسطيني الذي اضطرّ لحمل الجنسية الإسرائيلية اعتُبر مواطنًا إسرائيليًا بحسب القانون. لكنه لو تقدّم للمطالبة بأرضه الموضوعة في تصرّف “القيّم على أملاك الغائبين” يُصبح غائباً، وتُطبّق في حقه نصوص قانون أملاك الغائبين. ولو رغب أحد المواطنين الفلسطينيين المهجّرين من الجليل مثلاً إلى الناصرة في زيارة قريته المدمّرة، وأن يتجول في المكان مستذكراً طفولته، ثم امتدّت يده لتقطف ثمرة من شجرة ربما كان زرعها بنفسه قبل النكبة، سيُعتقل ويُسلم إلى الشرطة التي ستُحيله إلى القضاء بتهمة سرقة أملاك الغير.

قانون أملاك الغائبين:

أصدرت إسرائيل هذا القانون في 12/12/1950، وهو يعتبر أي شخص غائباً إذا كان بين 29/11/1947 (قرار تقسيم فلسطين) و14/5/1948 (إعلان دولة اسرائيل) مواطناً من مواطني الدول العربية السبع المحاربة (سورية ومصر والسعودية والأردن والعراق واليمن ولبنان)، أو مواطناً فلسطينياً غادر مكان إقامته المعتاد في فلسطين إلى أي مكان خارج فلسطين قبل 1/9/1948، أو غادر إلى أي منطقةٍ في فلسطين، كانت تسيطر عليها قوات حاربت القوات الاسرائيلية. وبموجب قانون أملاك الغائبين هذا، صودرت أملاك الفلسطينيين والعرب في نحو 300 قرية متروكة أو شبه متروكة (3,250 ملايين دونم)، وفي نحو 25 ألف مبنى في المدن، وأحد عشر ألف محل تجاري. وكان الهدف من هذا القانون منع عودة اللاجئين إلى أراضيهم التي تركوها عنوة في معمعان القتال (انظر: بيني موريس، مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العددان 406 و407، 2013).

الغربة والتهميش:

15% من فلسطينيي 1948 هم من اللاجئين في أرضهم، وهذه النسبة تقديرية جرّاء عدم وجود إحصاءات عن المهجّرين اللاجئين، لأن هؤلاء يجري تعدادهم مع بقية السكان العرب في مناطق 1948. وهؤلاء هم الذين دُمّرت قراهم وبقوا في الدولة الجديدة (إسرائيل)، بعدما نجوا من محنة الطرد إلى خارج الحدود، ولجأوا إلى بلداتٍ أخرى في الداخل، ونجحوا في البقاء فيها. وبلغ عدد هؤلاء في سنة 1948 نحو 25 ألفاً من دون مهجّري النقب، وصاروا اليوم نحو 250 ألفاً، وجميعهم حاضرون كمواطنين، غائبون كأصحاب الأرض. (انظر: هليل كوهين، الغائبون الحاضرون، بيروت مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2003). وعلى سبيل المثال، يسكن بعض أهالي البصّة اليوم في قرية معليا، وأهالي هوشة في شفا عمرو، ولاجئو “إقرت” و”كفر برعم” في الجش، وسكان “سحماتا” في “فسوطة” و”البقيعة” و”ترشيحا”، وأهالي “الغابسية” رُحّلوا إلى “الشيخ دنون”، وأهالي “عيلوط” و”معلول” و”المجيدل” إلى “الناصرة”، وسكان “البروة” إلى “الجديدة” و”المكر”.. وهكذا. ففي سنة 1948، مع بدء القتال وعمليات التهجير، راح سكان المستعمرات الإسرائيلية (الكيبوتزات) يستولون على الأراضي الفلسطينية المهجورة، ويجنون المحاصيل لمصلحتهم، ثم عمدوا إلى تسييج أراضي القرى المجاورة، وضمّها إلى النطاق الجغرافي لمستعمراتهم. وهكذا صارت أملاك الفلسطيني الذي أرغمته حرب 1947 – 1948 على الانتقال من مكان إلى آخر في داخل فلسطين “أملاك غائبين”، واضطرّ إلى دفع إيجار منزله الجديد، في وقتٍ كانت فيه السلطات الإسرائيلية تؤجر مسكنه القديم لمهاجرين يهود جدد.

عاش “اللاجئون في وطنهم”، في المرحلة الأولى، في أكواخ خارج القرى التي لم تُهدم، وتلقوا المساعدات من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التابعة لأمم المتحدة، ومن الصليب الأحمر الدولي، ودأبت السلطات الإسرائيلية، بعناد عنصري، على رفض عودتهم إلى قراهم الأصلية. وفي البداية، أي بين 1950 و1952، قدّمت (أونروا) بالتعاون مع الصليب الأحمر الدولي مساعدات تموينية وإيوائية وطبية لهؤلاء اللاجئين، إلى أن تولّت إسرائيل تلك المهمة بنفسها في 1/9/1952، فتوقف عمل “أونروا”. وكان عدد الذين تلقوا الإعانات من “أونروا” آنذاك نحو 20 ألفًا. وعمل هؤلاء اللاجئون في الزراعة، فكانوا يستأجرون الأراضي، بما في ذلك أراضيهم التي نُزعت ملكيتها منهم بموجب قانون أملاك الغائبين. وعانى هؤلاء التهميش الاقتصادي والاجتماعي، فقد كانوا غرباء، حتى في القرى العربية التي نزحوا إليها. ولمّا كانوا لا يملكون أي أرض، فقد جعلهم هذا الوضع في أدنى السلم الاجتماعي، حتى بين الفلسطينيين في الداخل، لأن لملكية الأرض شأناً مهماً في السلم الطبقي، وهي التي تحدّد، إلى درجة كبيرة، المكانة الاجتماعية للأفراد والعائلات.

انقسمت هوية اللجوء لدى هؤلاء بطريقتين: الأولى إيجابية، جسّدها آنذاك شعار “أنا من هناك”، أي من قرية محدّدة ليست بعيدة كثيرًا عن مكان اللجوء. والثانية سلبية، جسّدها شعار “لستُ من هنا”. فكان أهالي القرى الأصليون يذهبون مع عائلاتهم إلى ما بقي لهم من حقولهم، بينما اللاجئ ظل لا أملاك له ليذهب إليها، وهذا معيار اختلافٍ عن بقية أهل القرية. وظهرت منازعاتٌ بين سكان القرى واللاجئين إليها جرّاء المنافسة على مصادر الرزق، وشكّلت تلك المنازعات عائقاً أمام اندماج اللاجئين في مجتمع القرى وسكّانها الأصليين. وفي خضم ذلك، لبث الفلسطينيون على هامش الاقتصاد الإسرائيلي، واللاجئون على هامش الهامش. وعلى سبيل المثال، أهالي قريتي “كفرعنان” و”فراضية” المسلمون الذين لجأوا إلى بلدة “الرامة” الدرزية- المسيحية، وهؤلاء لم يكن لهم وزنٌ يعتدّ به، ولم يتولَ أي واحدٍ منهم مناصب في المجالس المحلية (البلدية). وهذا ما حدث في قرية معليا المسيحية في أعالي الجليل التي هبط إليها مهجّرون مسيحيون من قرية البصّة عند الحدود مع لبنان، فلم يتمكّن أحد من أهالي البصّة من تبوؤ أي وظيفة في المجلس المحلي لقرية معليا.

استيقاظ هوية اللجوء:

في سنة 1953 صدر “قانون استملاك الأراضي” الذي كانت غايته إسكان هؤلاء اللاجئين في أماكن بديلة، ودفع تعويضات مالية لهم بشرط توقيع وثيقة تنازلٍ عن أملاكهم الأصلية، والإقرار بأن لا مطالب لهم في ذمّة الدولة تتعلق بأراضيهم المصادرة. وقد رفض معظم اللاجئين هذا الأمر في البداية، لكن أعداد طالبي التعويضات وموقّعي وثائق التنازل راحت تتزايد بالتدريج، ومعها بدأت هوية اللجوء تتراجع. ومن غرائب تلك الفترة أن أحد اللاجئين احتجّ على قيمة التعويض قائلاً: هل ثمن الدونم الواحد من أرضي 200 ليرة فقط؟ إنه ثمنٌ بخس. فأجابه الموظف الإسرائيلي: هذه ليست أرضك. إنها أرضنا، ونحن ندفع لك أجرة النطارة. وأنتم لستم إلا نواطير نطرتم أرضنا منذ 2000 سنة، وها نحن ندفع لكم أجرتكم (حنّا نقارة، صحيفة الاتحاد، 15/7/1966). ومع أن كثيرين حصلوا على تعويضاتٍ ماليةٍ أو أراضٍ بديلةٍ منذ أواخر الخمسينيات من القرن المنصرم، إلا أن قلة قليلة منهم تمكّنت من العودة إلى قراها الأصلية، وسكن الباقي في أمكنة لجوئهم الجديدة، ودأب هؤلاء على زيارة قراهم الأصلية في المناسبات السنوية (ذكرى النكبة أو عيد الأضحى) مصطحبين معهم أبناءهم وأحفادهم. وفي هذا الميدان، يقول عاطف الخالدي أن نحو 50% من المهجرين حصلوا على تعويضات حتى عام 1996 (هليل كوهين، ص 16).

ومنذ عام 1997، بدأ الناشطون من أبناء اللاجئين يذهبون إلى قراهم المدمّرة في مسيرات جماعية، ويعمدون إلى إجراء ترميماتٍ رمزيةٍ في المكان، ويقدّمون عروضًا فلكلورية، وينظفون المساجد والكنائس والمقابر (هليل كوهين، ص 9). وفي هذا السياق، لم يكن ثمّة ما يميز هؤلاء اللاجئين (الغائبون الحاضرون) سياسياً من بقية فلسطينيي 1948، فمعظمهم انتظم في الأحزاب السياسية الموجودة، لكنهم لم يطوّروا أي أطر حزبية أو مطلبية خاصة (خلافاً لأهالي قريتي إقرت وكفربرعم). لكن، منذ أوائل التسعينيات من القرن المنصرم، استيقظت مجدّداً هوية اللجوء، لا لدى الجيل الأول، بل لدى الأبناء والأحفاد هذه المرّة. وهؤلاء الأبناء والأحفاد ما برحوا مصرّين، على الرغم من صعوبة الأمر، على العودة إلى قراهم الأصلية، والحصول، فوق ذلك، على تعويضاتٍ لترميم منازلهم المدمّرة، واستعادة أملاكهم المصادرة. لكن السياسة الإسرائيلية قامت، منذ البدايات، على عدم إعادة اللاجئين إلى قراهم، وكانت الغاية إحداث قطيعةٍ تامةٍ بين هؤلاء المهجّرين ومنابتهم الأصلية، ومحو العنصر التأسيسي في هويتهم الوطنية، أي الانتماء إلى أرض وشعب، وعلى سبيل المثال، أهالي قرية الغابسية المهجّرون الذين رفعوا التماساً إلى محكمة العدل العليا في إسرائيل في شأن إعادتهم إلى قريتهم، فأصدرت المحكمة في 1952 قرارًا رأى أن إعلان الجيش الإسرائيلي بلدة الغابسية منطقة عسكرية مغلقة غير قانوني. ومنذ 1952، لم يتمكّن الأهالي من تنفيذ قرار المحكمة. وذلك مجرّد مثال واحد عن العَسف العنصري الإسرائيلي في حق الفلسطينيين في أراضي 1948، والذي ما انفكّ مستمرًا منذ 74 عامًا.

* كاتب عربي فلسطيني

المصدر: العربي الجديد

التعليقات مغلقة.