الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أيّها الناخب اللبناني.. إعرفْ عدوّك!

وفاء أبو شقرا *

 يُروى أنّه عندما عرض الخليفة الأموي معاوية بيعة ابنه يزيد وليّاً للعهد في أحد مجالس الخلفاء في الشام، وقف أحدهم ونادى وسط الجموع المنقسمة بين مؤيِّدٍ ومُعارض: “أيّها القوم، أمير المؤمنين هذا (وأشار إلى معاوية). فإنْ مات فهذا (وأشار إلى يزيد). ومَن أبى فهذا (وأشار إلى السيف)”. فقال له معاوية: “إجلس، فأنتَ سيّد الخطباء”. ووُلِّيَ يزيد على المسلمين، وبقيّة الحكاية تعرفونها.

بهذه الطريقة، تقريباً، “تولِّي” السلطة السياسيّة في لبنان ممثّلي الشعب في البرلمان. وبهذه الطريقة “تُفَبْرِك” أحزابُها المسيطرة على الحياة السياسيّة اللبنانيّة لنفسها “الأغلبيّة النيابيّة”. “تولِّي” و”تُفَبْرِك” النوّاب، بالوسائل المشروعة وغير المشروعة. وبالطُرق الأخلاقيّة وغير الأخلاقيّة. إنّما لهذه الوسائل والطُرق، جميعها، لغة واحدة. لغة قادرة لوحدها، بحسب شكسبير، على “تغيير اللون الأخضر إلى لونٍ أحمر”. لغة لا يجيد حُكّام لبنان التكلُّم بغيرها. يتكلّمونها في كلّ المناسبات والظروف. وأعني بهم “الأوليغارشيّة اللبنانيّة”. أي، حُكم القلّة لصالح القلّة. صحيحٌ أنّ الأوليغارشيّة هي مفهوم طارئ على القاموس السياسي للّبنانيّين. لكنْ شخّصه، قبل نحو أربعةٍ وعشرين قرناً، الفيلسوفان الإغريقيّان أفلاطون وأرسطو أثناء توصفيهما للأنظمة السياسيّة، ولا بأس من التذكير بهذا التوصيف.

تتألّف الأوليغارشيّة اللبنانيّة (وككلّ الأوليغارشيّات) من ثلاثة أضلع أساسيّة متشابكة في ما بينها: الطبقة السياسيّة، والمصارف والمصالح الماليّة، والمؤسّسات الدينيّة. الطبقة السياسيّة، هي الجزء الأكثر ظهوراً بين الأضلع الثلاثة. ويُعتبَر البرلمان الشقّ الأكثر فعاليّة في هذا الضلع. للأوليغارشيّة مؤسّسات بديلة عن الدولة. وفي لبنان، لها أيضاً لغتها الخاصّة في مخاطبة الناس. في الواقع، هي لا تخاطبهم. بل، تجتاحهم اجتياحاً بخطابها. ولا سيّما، أولئك المحسوبين عليها. أي مَن تصنع لهم اختياراتهم. ومَن يطوفون، في بعض المناسبات، حول أصنامها.

تُدرك هذه الأوليغارشيّة أنّه، و”بفضلها”، لم يبقَ الكثير ممّا يجمع بين اللبنانيّين. فهي بعّدت بين الينابيع التي يشربون منها. والقواميس التي يحتكمون إلى مصطلحاتها. وأخطر ما فعلته، أنْ جعلت اللبنانيّين يقرؤون قراءةً مختلفة. للداخل وأفخاخه والخارج وتحوّلاته. وعلى هذه الاختلافات عوّل الأوليغارشيّون. وعلى هذه التباعدات اعتمدوا. وفي هذه الانشقاقات صرفوا الصفقات والسمسرات والمغامرات والنزاعات في ما بينهم. لقد وقع لبنان في قبضة حُكّامٍ، لا يملك الواحد منهم هالةً إلاّ في المنطقة التي يشبهها وتشبهه. ولا يملك تفويضاً أوسع من البيئة التي يشبهها وتشبهه. فتصير براعته تتجلَّى، إذّاك، في تشييد “الجدران”. وفي تهديم “الجسور”. لقد بنوا للّبنانيّين بلداً متخيَّلاً غريباً وعجائبيّاً. بلداً يدير الحياةَ فيه موتى، بحسب تعبير جان بول سارتر. فلا الرئيس رئيس. ولا البرلمان برلمان. ولا الحكومة حكومة. ولا المؤسّسات مؤسّسات. ولا الديموقراطيّة ديموقراطيّة. ولا الانتخابات انتخابات. ولا الحريّة حريّة. ولا الغني غني. ولا الفقير فقير. ولا الصديق صديق. ولا العدوّ عدوّ. وبعد؟

الأحد 15 أيّار/مايو سيكون يوماً آخر. ينتهي معه الدور التشريعي الثالث والعشرون. ومجلسٌ نيابي شهد أكثر المراحل حساسيّةً. وأكثر السنوات صعوبةً في تاريخ لبنان الحديث. بحيث عاصر هذا المجلس سلسلة أزماتٍ متتالية. بدأت بانتفاضةٍ شعبيّةٍ عارمة. واستمرّت مع أزمةٍ اقتصاديّة وماليّة غير مسبوقة. وجائحة عالميّة. ولم تنتهِ مع جريمة انفجار العصر في مرفأ بيروت. سمةٌ أخرى لهذا البرلمان. قد لا يملكها برلمانٌ آخر في المعمورة. إذْ حافظ “ممثّلو الشعب” فيه على مقاعدهم، وهم فاقدين للشرعيّة. تلك التي نزعها عنهم، في الشارع، معظم الشعب. لكنّ لا شرعيّتهم هذه، لم تُثنِهِم عن الترشّح لولايةٍ جديدة. يا لَهَوْل قلّة حيائهم!

تُدرك الأوليغارشيّة اللبنانيّة، وهي تخوض الانتخابات بنفس المرشّحين تقريباً، أنّه لو تُرِكت للناس حريّة الاختيار (بمَن فيهم ناسها؟) لَكَانت، مع جميع أركانها، في “خبر كان”. فهي تلمّست منذ 17 تشرين، أنّ نبضاً جديداً صار يسري في العروق. لكنّ “جهابذتها” يعرفون لبنان جيّداً. ويعرفون كيفيّة الضرب تحت الحزام. وكيفيّة حَرْف الحقائق عن سكّتها. إتّكل لصوص السلطة على ذاكرة الشعب المثقوبة. لنقُلْ، استخدموا هذا الشعب بإبقاء ذاكرته وعاطفته وتفكيره بعيداً عن الوعي. فماذا فعلوا؟ ركّزوا على التحقير والإذلال. آآآهٍ.. كم احتقرونا! كيف تعاطوا معنا بمنطق تدجين الحيوانات. نعم. هؤلاء التافهون والحقيرون والمتخلّفون عقليّاً، إلى أبعد الحدود، حوّلوا اللبنانيّين إلى جسدٍ مستباح لتجريب كلّ المحظورات عليه. لا رقيب ولا حسيب. لكن هناك أمل لخلاصنا، ربّما. فباحثو التطوّر البيولوجي يعتقدون أنّ الحيوانات التي تبنّت السلوك غير المتوقَّع، نجحت في الهرب من الحيوانات التي أرادت افتراسها. واستطاعت الاستمرار في الوجود لأجيال.

كيف اشتغل الأوليغارشيّون على الغرائز لمنع الأتباع من الفرار منهم؟

“بيان الأشياء بذواتها، وإن لم تَبُن بلغاتها”، كما يقول ابن وَهَب في كتابه “البرهان في وجوه البيان” (المصنَّف أهمّ كُتب البلاغة في القرن العاشر). إذْ لم يجد أركان الأوليغارشيّة غير اللغة لإسعافهم. لغة تمّ تصميمها “لتجعل الكذب يبدو صادقاً، والقتل محترَماً”، على حدّ تعبير جورج أورويل. لغة صاغوا بها سرديّات، لا تلوي على برنامج. أو خطّة. أو مسوّدة مشروع. أو بضع أفكار حتّى. هم، للإشارة، لا يرون أنّهم بحاجة لفعل ذلك. لا يُشعِرهم جمهورهم، أصلاً، أنّ من واجبهم أن يقدّموا لهم خارطة طريق لعملهم في البرلمان الحالي. أو السابق. أو المقبل. لماذا عليهم أن يحترموا عقول مَن احتقروا دماءهم ودموعهم وأوجاعهم على الدوام؟

ولأنّ ليس لديهم حُجّة ليبرّروا لجمهورهم (ولكلّ الجماهير) سياساتهم التي أطاحت بالبلد. ولأنّ ليس لديهم نيّة لتقديم مجرّد بدائل مُحدَّثة لتلك السياسات. ولأنّهم يشكّلون أعنف سلطة عرفها لبنان وأَوْهَنها، في آن. لم يجدوا أجدى من الكلام الفارغ لملء الفراغ. كلام موجَّه، تارةً، للأتباع. وتارةً أخرى للحلفاء. وطوراً لمحاججة المنافسين والخصوم و”الأعداء”. خطابهم الانتخابي كان عبارة عن أساليب لغويّة تستند، بشكلٍ أساسي، إلى مفاعيل خطاب غير مرئي. وفي انعدام رؤيتنا لهذا الخطاب، نحن الناخبين العصيّين على التطويع، تكمن بصيرة جمهورهم الناخب. وتنسحب تلك البصيرة على مكوّنات بيئاتٍ محليّة ابتُدِعت لها في لبنان تسمية “البيئات الحاضنة”. وهذه البيئات الحاضنة مكوَّنة من حزبيّين نظاميّين. ومن حزبيّين موسميّين (مستفيدين). ومن أتباع. وأنصار. ومؤيّدين. ومَن كان، بالمختصر، “لحم أكتافهم من خيرهم”. كيف تمّت الدعوة لهؤلاء لكي يقترعوا للوائح السلطة؟

المدخل إلى الجماهير هو “الريع الخطابي” الذي يفترض جاهلاً أبديّاً، على حدّ توصيف الكاتب الفلسطيني فيصل درّاج. لقد حاول الخطاب الانتخابي تحفيز جماهير الأوليغارشيّة، لعدم التهاون في مراكمة أرقام الأصوات في يوم الانتخاب. فهُم متوجّسون، من صغيرهم إلى كبيرهم، من تمرُّد الأرقام على إرادة الحُكّام! وعليه، تدفّقت المفردات المشدِّدة على خطورة ما هُم مقبلون عليه. وعلى التخويف من اللحظة المفصليّة. المصيريّة. الوجوديّة. سمعناهم ينصحون. ومن ثمّ يعاتبون. ومن ثمّ يؤنّبون ويقرّعون. ومن ثمّ يختمون مطالعاتهم بالمطالبة بالوفاء. الوفاء ليس إلاّ. الوفاء للأبّ. للجدّ. للحزب. للدماء المسفوكة. لـ.. كلّ شيءٍ أُعطِي لهم. وكيف يجب أن يتمظهر هذا الوفاء؟

عبر ردٍّ للجميل. ومرادف هذا “الجميل” في لبنان كلمة واحدة: الولاء. والولاء يُفضي إلى المبايعة (على طريقة معاوية إيّاها). لكنّ المبايعة، في حالتنا اللبنانيّة، تكون عبر تسقيط أسماء مرشّحي الأوليغارشيّة في صندوقة الاقتراع يوم الأحد. ومَن هي هذه الأسماء؟ هنا بيت القصيد في احتقار الناخبين! إذْ فرضوا عليهم مرشّحين معيّنين: ورثة مَن أذاقنا آباؤهم وأجدادهم الأمرّيْن. مكروهون من أهل محلّتهم. مطارَدون في الأماكن العامّة. قَتَلة. هاربون من العدالة. لصوص المصارف. مُبيِّض أموال. آكل فلس اليتيم والأرملة. عميل. مشروع عميل. حليف عميل. صانع مخدّرات أو مروّج لها. رئيس عصابة حالي. ميليشياوي سابق. قوّاد. قاضٍ مرتشٍ… وهكذا!

هؤلاء جميعاً، إذا لم تنتخبهم جماهير الأوليغارشيّة، ستعود الحرب الأهليّة. وستشنّ إسرائيل حرب تموزٍ ثانية. وسيطبِّع لبنان مع العدوّ. و.. سيزول لبنان عن خارطة العالم. نعم. بهذه “النخبة” من المرشّحين، تريد الطبقة السياسيّة الحاكمة أن تتصدّى للزلازل المقبلة على بلاد الأرز. وملاحظة مهمّة في هذا الإطار. الاعتراض ممنوع. والمناقشة ممنوعة، أيضاً. فأفكار “القادة” وقراراتهم مقدّسة. أمّا مَن تسوّل له نفسه أن يعاكسها، فهو إنسانٌ مشبوه. بل، إسرائيلي الهوى من الآخِر!

كلمة أخيرة يا صديقي الناخب اللبناني. المعادلة بسيطة وواضحة. إمّا أن يصنع المرء مصيره بنفسه وفق مصالحه وتطلّعاته، وإمّا أن يصنعه الآخرون له وفق مصالحهم وحساباتهم. فإذا كنتَ تعرف أنّك ذاهبٌ يوم الأحد لإعادة انتخاب مَن قضى على مصالحك وتطلّعاتك، فهذه مصيبة. وإنْ كنتَ لا تعرف، فهذه مصيبة أكبر. إقتضى التذكير.

* أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

المصدر: 180 بوست

التعليقات مغلقة.