الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عيدنا، أيام زمان!

فيصل عكلة *

يبدأ الإستعداد لإستقبال العيد من ليلة القدر، حيث يتوافد الناس كبيرهم وصغيرهم إلى المسجد بعد الإفطار لينضموا لقافلة المعتكفين، وفي هذه الليلة يمتلئ المسجد، بعد صلاة العشاء تتوسط المصلين فرقة البلدة من المنشدين من “أبي جميل” إلى “حج راجح” وغيرهم، ولِتصدح أصواتهم بالصلاة على الرسول الكريم وآله وصحبه ويبدأ الحضور بذرف دموع الحزن مع أنشودة وداع رمضان:

       يا شهرنا هذا مني عليك السلام، يا هاشمي منا عليك السلام

في الأثناء يكون المختار قد دار على الحضور وجمع في حرّجِهِ بعض الأموال، وينتقل على جناح السرعة مع عدد من الأطفال إلى دكان “فاضل” لإحضار الراحة والبسكويت والفستق والمصاص ويوزعونها على الحضور نهاية الحفل، ويتم إيقاظ بعض الأطفال الذين غلب عليهم النعاس وهم ينتظرون لحظة توزيع الحلو، ويكون الختام دعاء الشيخ بأن تكون هذه الليلة ليلة مغفرة وقبول للصائمين!

 وفي الأيام الأخيرة من شهر رمضان تملأ خالتي قفتها المزركشة طحينًا من عين( الجكوز) وتنثرها في (طشت) النحاس وتسكب فوقها عدة طاسات من الماء و(تلوشه) مع بعض قبل أن تضيف له التوابل وتتركه قليلًا ليَختمر.

تتربع خالتي على المصطبة البيضاء وأمامها (جونيات) القش وحولها عددًا من بنات الدار والجارات وتقتطع خالتي قطعًا صغيرة من العجين توزعها عليهن ليصنعن منها فتائل طولانية ثم يُقطعنها إلى قطع متساوية قبل تحويلها إلى دوائر، وترصفُ الكعك على شكل دوائر متحدة المركز في الجونية قبل تصلية التنور.

توضع جونيات الكعك على مصطبة التنور لتتعانق رائحة الشمرا والكزبرة واليانسون وجوزة الطيب مع دخان التنور، ولِيملأ عبيرها الأجواء، وتروح خالتي تلصق الكعكات بهمة ونشاط داخل عين التنور وقرب جمرات الحطب المتلئلئة، وما يزيد من العجين تُحوله خالتي إلى عدد من (البحبوحات) المدورة والمقرمشة والتي كنا نحن الصغار ننتظرها قبل أن ينفض عرس الكعك!

في الجامع الكبير نتحلق حول الحاج راجح ونردد خلفه تكبيرات العيد بنغمة دافئة وحزينة وبصوته المبحوح، تجعل أهل البلدة يتقاطرون إلى المسجد وينهي تلك التكبيرات بالدعوة لصلاة العيد:

سبحان ذي الحجج القاطعة، سبحان ذي الأنوار الساطعة، سبحان من أنزل العاديات و القارعة… صلاة عيد الفطر جامعة، الصلاة جامعة.

وبعد صلاة العيد، كنّا نحن الصغار نقف على باب الجامع على شكل صفين متوازيين، وقد رتبنا أنفسنا ترتيبًا تنازليًا حسب الطول، الكبير منا يقف في أول الصف آملًا في حصة الأسد من العيديات التي ننتظر الحصول عليها ونحن نردد (عيدكن مبارك عمي)، ونمدّ يدنا نحو الأعلى لنسلّم على المصلّين وعيوننا تتركز على الكَمَر( اليطق) المربوط فوق (القنباز) المترامي الأطراف، ويأتينا الرد: عليك أبركْ العياد.

يرد الرجل وهو يحاول فتح أحد الجيوب من يطقه ويفشل كثيرًا في الوصول إلى الهدف وهي النقود المعدنية ويفتح موقع النقود الورقية والتي يسميها الكدش، ويعود ليبرم اليطق ربع دائرة ليصل إلى الفراطة ويمد يده ويخرج القطع النقدية من فئة الفرنك والفرنكين ونص الفرنك وهو المفضل عنده ويناولني إياه بعد أن يفركه بابهامه والسبابة وكأنه يشك أن يكون قد علق معه قطعة أخرى أو أنه يودعه الوداع الأخير.

إثر فض صلاة العيد تبدأ رحلة الدوران على منازل الأقرباء والجيران، نقف على الباب وننادي: (عيدكن مبارك يا أهل البيت) ونجلس  إلى مائدة مبسوطة قرب الباب وفيها (طشت) رز بحليب أو (الزردا) التي تقتصر على الرز والماء، وكنا نعرف منازل العوائل الميسورة والتي تطبخ رز (مفلفل) ومرقة الفاصولياء ونتعمد الدخول إليها لتناول بضع لقيمات منها.

قبيل أذان الظهر نتوجه بِغلّتِنا إلى الدكان ونشتري بضع أكعاب من النمورة أوالهريسة الملونة وغزل البنات، ونعود أدراجنا ونحن نركب “الباص” وهو خيط طويل يجمع شعثنا ونتنافس على من هو الشوفير ومن المعاون ومن يستلم إطلاق صوت الزمور.

في المساء وعلى المصطبة نتحلق لِنستمعَ لـ”أبي حمدو” وهو يسرد سيرة من سير السابقين ونذهب إلى فراشنا ونحن نحلم أن نكبر يومًا ونعطي العيدية للصغار!

 ليتنا بقينا صغارًا!.

* كاتب سوري

المصدر: اشراق

التعليقات مغلقة.