الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

المواطنة والمواطنة المتساوية في سورية.. الواقع والعقبات والمستقبل(2/3)

د. بدرالدين عرودكي

     1واقع المواطنة في سورية، مفهومًا وتطبيقًا 1946ـ2021

     أ‌. على الصعيد الدستوري

   عرفت سورية منذ استقلالها حتى اليوم سبعة دساتير كان أولها الدستور الذي وضعته خلال عام 1928 أول جمعية تأسيسية منتخبة في ظل الانتداب الفرنسي وجرى نشره بقرار من  المفوض السامي للجمهورية الفرنسية في 14 أيار/مايو عام 1930.  وبعد الاستقلال، حلَّ مكانه الدستور الثاني والأخير الذي وضعته هو الآخر جمعية تأسيسية منتخبة في عام 1949 ثم تحولت إلى مجلس نيابي بعد إقراره ونشره، وهو دستور عام  1950. وباستثناء الدستور المؤقت الذي وضع على إثر الوحدة السورية المصرية في عام 1958، وضعت الدساتير الأخرى المتوالية إثر كل انقلاب عسكري شهدته سورية بدءًا من عام 1953، ثم عام 1963، و1971. أما الدستور الأخير الذي جرى تحريره في ظل الصراع بين النظام الأسدي والقوى الشعبية الثائرة، فقد صدر في عام 2012 ، كما لو كان قد أريد له أن يكون تعبيرًا عن إرادة هذا النظام بالاستمرار في سياسته التي عبَّر الشعب السوري عن رفضه لها شكلًا ومضمونًا في أرجاء سورية كلها.

   من الممكن، عبْرَ نظرة مقارنة بين الطريقة التي عبَّرَ بها كل دستور من الدساتير السبعة التي توالت خلال نيّفٍ وسبعين عامًا عن معاني المواطنة، معرفة الكيفية التي كان السوريون يفهمون وفقها معنى المواطنة في نظام ديمقراطي حين كان يضع دستورهم من اختاروهم، هم، لهذه المهمة في انتخابات حرة وفي ظل الاحتلال الفرنسي لبلدهم أيضًا، وتلك التي طبعت الدساتير التي وضعتها لجان اختار الحاكم الفرد وحده أعضاءها واستجابت في مهمتها لا لما يقتضيه نظام ديمقراطي في دولة حديثة، بل لمقتضيات إرادة هذا الحاكم الفرد وتوجيهاته(6).

   على أن القاسم المشترك الجوهري الذي يمسُّ مفهوم المواطنة وتبعاته، على صعيد النص الدستوري في مجموع الدساتير السبعة، كان يتمثل في غياب عنصر  مقوِّم أساس في هذا المفهوم على صعيد المساواة والذي تجسَّدَ  في النص على “احترام الأحوال الشخصية” للجميع، أي، في واقع الأمر، غياب مفهوم المواطنة المتساوية المتمثل في  قبول تعدد واختلاف أحكام التشريعات الدينية الخاصة بكل دين أو مذهب أو طائفة التي تُقننها في مجالها ومن ثمَّ المحاكم المختصة بها حسب تلك التشريعات. أي بإيجاز غياب موضوع المساواة في مجمل الحقوق والواجبات التي يقتضيها مفهوم المواطنة الحديث خصوصًا بين المرأة والرجل. فقانون حقوق العائلة العثماني الذي صدر عام 1917، أي قبل نيف وقرن، ظل معمولًا به حتى صدور قانون الأحوال الشخصية عام 1953؛ لا بل إن واضعي هذا الأخير انطلقوا من قانون حقوق العائلة المشار إليه مثلما استمدوا مواده أيضًا من قانون الأحوال الشخصية المصري وكذلك من فقه المذاهب الأربعة وخصوصًا المذهب الحنفي. والمشكلة أن هذا القانون هو الذي يجسِّدُ، على وجه الدقة، غياب عنصر المساواة: سواء بين المرأة والرجل، أو بين المواطنين حسب انتمائهم الديني أو المذهبي أو الطائفي، وذلك على صعد مختلفة كالحرية الشخصية، وعدد من الحقوق المدنية المتعلقة بالإرث أو بالزواج. لا يزال هذا الوضع الدستوري والقانوني قائمًا حتى يومنا هذا، على الرغم من محاولات خجولة، وبعضها بائسة، في التعديلات المتوالية التي أقرَّت على قانون الأحوال الشخصية خلال العقدين الأخيريْن.

   عبرت إرادة ممثلي السوريين المنتخبين عن اعتمادها مفهوم المواطنة في كلٍّ من دستوريْ 1930 و1950 ولاسيما عند النصِّ في الدستوريْن على الفصل الفعلي بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. على أن الحكومة التي وضعت قانون الانتخاب ضمن مجموعة من التشريعات عام 1949 تمهيدًا لانتخابات الجمعية التأسيسية في العام نفسه، نصّت في المادة السابعة منه على أنه يحق “لكل سورية وسوري أتمَّ الثامنة عشرة من عمره في أول كانون الثاني التي يجري فيها الانتخاب أن يكون ناخبًا”، على أن “يشترط في ممارسة الإناث حقهن في الانتخاب أن يكنَّ حائزات على الأقل على شهادة التعليم الابتدائي”(7). وبذلك كانت سورية أول بلد عربي يقنِّنُ حق المرأة في الانتخاب وفي التعبير عن رأيها في الفضاء السياسي، بما في ذلك حق الترشح الذي أقر في الدستور الذي وضعه أديب الشيشكلي. على أن شرط حصول النساء على شهادة التعليم الابتدائي كي يمارسن الانتخاب ألغي من قانون الانتخابات الذي صدر في عام 1973، وصار كل مواطن سوري من الذكور والإناث أتمَّ الثامنة عشر من عمره في أول السنة التي تجري فيها الانتخابات يتمتع بحق الانتخاب. ومع ذلك، فإن العودة إلى وقائع الحياة السياسية اليومية في الفترة التي تلت إقرار دستور 1950 تحمل على الإقرار بأن أغلب الحكومات الوطنية آنئذ لم تلتزم “بتلك القيم المواطنية التي ضمنتها الدساتير المعلنة، من مواد حول حقوق المواطن في الرأي والتفكير والتعبير، وبدا التناقض واضحًا في إعطاء تلك الحقوق” بين النص الدستوري والقيود التي وضعت على ممارسة هذه الحقوق جميعها”(8).

   لم تختلف الدساتير التالية على دستور 1950 في نصوصها الخاصة بحقوق المواطنين عنه إلا في الصياغة والتطبيق الفعلي لمواده، سواء في القوانين التي تنظم حقوقهم وواجباتهم، أو في الممارسة الفعلية التي تقوم بها السلطة التنفيذية للمبادئ المقررة فيه. ففي الدستور الذي تمَّ إقراره في الشهر الثاني من عام 1973 والذي سيبقى معتمدًا طوال أربعين عامًا، وضعت مواد تتناول حقوق المواطنين سبق أن وردت في الدساتير السابقة مثل: “المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات”، “لكل مواطن حق الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية”، “تكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين”، “يمارس المواطنون حقوقهم ويتمتعون بحرياتهم”، “حرية الاعتقاد مصونة”، “لكل مواطن الحق في أن يعبر عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكتابة وبكافة وسائل التعبير الأخرى..”، “للمواطنين حق الاجتماع والتظاهر سلميًا”(9). إلا أن طبيعة النظام الجديد الذي حدَّدهُ هذا الدستور في مادته الثامنة جاعلًا من حزب البعث العربي الاشتراكي  “الحزبَ القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية  تقدمية” مؤلفة من مجموعة من الأحزاب التي قبلت الانضواء تحت هذه القيادة، من ناحية، وجعل من رئيس الجمهورية فضلًا على اختصاصات منصبه، بما في ذلك إعداد مشاريع القوانين التي يقرها مجلس الشعب بعد إحالتها إليه، ضامن استقلال السلطة القضائية (المادة 131)، وكذلك حق تسمية أعضاء المحكمة الدستورية العليا الخمس جعلت من هذه المواد الدستورية على صعيد التطبيق حبرًا على ورق. فحرية التظاهر السلمي تحولت إلى مسيرات منتظمة يُرغم الطلاب والعمال والمعلمون والموظفون على المشاركة فيها، في حين ووجهت أولى المظاهرات السلمية الحقيقية التي خرجت بإرادة شعبية واسعة في آذار 2011 لأول مرة منذ أربعين عامًا على تحرير النص الدستوري المشار إليه بالعنف وبالرصاص؛ أما حرية التعبير بحرية وعلنية التي وضع حدودها الدستور نفسه فهي تنحصر في “النقد البناء بما يضمن سلامة البناء الوطني والقومي ويدعم النظام الاشتراكي”(10).

   هذا التنافر بين الخطاب الوردي والواقع المرِّ على صعد القانون والمؤسسات والتنظيم الحكومي الذي بات شديد الوضوح في مسار النظام الأسدي(11)، كان قائمًا أيضًا على الصعيد نفسه بين الخطاب الدستوري والممارسة الفعلية في الواقع وبلا استثناء لأي ميدان طوال أربعين عامًا. ولن يغير من الأمر شيئًا مبادرة النظام الأسدي في عهد الوريث عام 2012 التي تمثلت في وضع دستور جديد(12) بعد سنة من الانتفاضة الثورية للشعب السوري في محاولة مزدوجة الأهداف: الالتفاف على الغضب الشعبي واحتوائه من جهة، والظهور أمام الرأي العام العالمي بمظهر من يستجيب “في العمق (!)” لمطالب المتظاهرين ولاسيما على صعد حقوق المواطنين وحرياتهم. سوى أن هذا الدستور، على الرغم من أنه أول من شدَّدَ في المادة 33 على مبدأ المواطنة: “المواطنة مبدأ أساسي ينطوي على حقوق وواجبات يتمتع بها كل مواطن ويمارسها وفق القانون”  إلا أنه كان يستعيد لحسابه خصوصًا صيغ المواد الخاصة بحريات المواطنين والصحافة والتظاهر، وضمان رئيس الجمهورية لاستقلال القضاء  واحتفاظه أيضًا بتسمية أعضاء  المحكمة الدستورية العليا التي صار أعضاؤها سبعة بدلًا من خمسة  في الدستور السابق، وكذلك عددًا من المواد الأخرى التي وردت في دستور 1973 حول قدسية الحرية وكفالة الدولة لها، وتكافؤ الفرص، وحق المواطن في الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. سوى أن تفعيل هذه المواد الدستورية كلها لا يمكن أن يتم إلا  “وفق الطريقة التي ينظمها القانون”. ذلك ما كان يتيح للسلطة الأسدية إمكان تعطيل هذه المواد أو تفريغها من معانيها بوسائل شتى تتراوح بين تجاهلها كليًا وبين عدم إصدار القوانين الناظمة لها أو إصدار مراسيم تجعلها غير قابلة للتنفيذ.  في مقاله المنشور عام 2016 تحت عنوان “وفقًا للقانون”، فصّل نادر جبلي هذه الوسائل التي استخدمها النظام عبر عبارة “وفقًا للقانون” مستهدفًا تفريغ أهم معاني مواد الدستور الخاصة بالحريات وبحقوق المواطنين، من خلال عرضه حضور أو غياب القوانين التي يفترض بها تنظيم مواد الدستور المشار إليها. على هذا النحو، “نصَّت المادة 26 من دستور عام 1973 على أن (لكل مواطن حق الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وينظم القانون ذلك)، لكن قانون تنظيم الأحزاب لم يصدر حتى آب 2011، وبقيت المادة الدستورية، وخاصة الجزء المتعلق بالمساهمة في الحياة السياسية، معطلة لأكثر من 38 عامًا، أي بقي تشكيل الأحزاب محظورًا بسبب عدم وجود قانون ينظمه، وكانت جميع الأحزاب الموجودة – فعلًا – غير مرخصة؛ حتى تلك المنضوية تحت جناح البعث فيما يسمى بـ (الجبهة الوطنية التقدمية)؛ لكن مشكلة تعطيل النص الدستوري لم تُعالَج بصدور قانون الأحزاب المذكور، بل انتقلت من التعطيل عبر التجميد (عدم وجود نص قانوني)، إلى التعطيل عبر الإعاقة (بوجود نص قانوني غير قابل للتطبيق)؛ حيث جاء في القانون ما يجعل من إمكانية وجود أحزاب حقيقية مستقلة أمرًا مستحيلًا؛ ويكفي القول: إن اللجنة المشكلة بموجب المادة السابعة من القانون، والتي تناط بها مهمات رئيسة، مثل: البت في طلبات تأسيس الأحزاب، وتفتيش حساباتها، ووقف قراراتها أو نشاطها…إلخ، هذه اللجنة مشكلة من خمسة أعضاء، يتبع أربعة منهم للسلطة التنفيذية، وهم الرئيس (وزير الداخلية) وثلاثة أعضاء معينين من رئيس الجمهورية مباشرة. فأي أحزاب يمكن ترخيصها عبر هذه اللجنة؟”(13) لا بل إن الأكثر خطورة وصفاقة أنه في الوقت الذي ينصّ فيه دستور عام 1973 في المادة 28، الفقرة 3 ، مثلًا، على أنه (لا يجوز تعذيب أحد جسديًا أو معنويًا أو معاملته معاملة مهينة، ويحدد القانون عقاب من يفعل ذلك)، “تأتي القوانين لتمنح الحماية والحصانة، تحديدًا، لمن يرتكبون جرائم التعذيب والإهانة، وهم عناصر الأمن والشرطة؛ فقد نصت المادة 16 من المرسوم التشريعي رقم 14 لعام 1969، المتضمن قانون إحداث إدارة أمن الدولة على أنه (لا يجوز ملاحقة أيٍّ من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها في أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكولة إليهم، أو في معرض قيامهم بها، إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير). أما المادة 30 من المرسوم نفسه، فتمنع نشر هذا المرسوم، ليبقى بعيدًا من اطلاع الناس: (لا ينشر هذا المرسوم ويعمل به اعتبارًا من تاريخ صدوره”)”(14).

   لم يكن مفاجئًا أن يتبنى النظام الأسدي وقد شعر بالخطر يحيق به في عام 2011 دستورًا جديدًا ينص فيه بالحرف على مبدأ المواطنة وعلى الحريات والحقوق المتعلقة به. لكنه لم يكن يفعل أكثر من السير على تقليد عريق في ممارساته منذ عام 1970: الفصل بين القول أو الخطاب وبين الفعل. على هذا النحو، وباستثناء سنوات قلائل، لم يتمكن السوريون طوال ما يقارب تسعين عامًا من التمتع بحقوق المواطنة ولا كذلك بطبيعة الحال بالمواطنة المتساوية، ولم تكن المواد الدستورية التي كانت تقول قسمًا من حقوق المواطنة إلا نصوصًا كان النظام في السنوات الخمسين الأخيرة يسارع إلى تعطيلها كليًّا.

     ب‌. في برامج الأحزاب السياسية الرئيسة ومواقفها

   لم تكن مسألة المواطنة والمواطنة المتساوية وحقوقها بالمعنى المتداول اليوم مفهومًا ومبادئ وقيمًا أولوية لدى معظم القوى السياسية التي عرفتها سورية على إثر استقلالها والتي كان بعضها يحتل المشهد السياسي الوطني منذ وخلال  فترة الانتداب الفرنسي، كالكتلة الوطنية والحزب الشيوعي والحزب القومي السوري الاجتماعي، أو البعض الآخر الذي تأسس بعيْدَ الاستقلال كحزب البعث العربي أو الحزب الاشتراكي اللذين سيتحدان في حزب واحد بعد سنوات من تأسيسهما، وكذلك جماعة “الإخوان المسلمون” التي كانت هي الأخرى في طور الولادة في سورية، أو الكتلة الوطنية التي كانت في طور إعادة الهيكلة على إثر انقسامها بعد الاستقلال إلى حزبين أحدهما يمثل التيار السياسي الداعي إلى التقارب مع العراق (حزب الشعب)، وثانيهما الداعي إلى التقارب مع مصر والسعودية (الحزب الوطني). فقد كانت القضية الأولى لدى القوى السياسية طوال عهد الانتداب تتمثل في مناهضة مختلف السياسات الاستعمارية التي مارستها فرنسا في سورية، ولاسيما سياسة التجزئة إلى دويلات ذات طابع طائفي تارة أو مناطقي تارة أخرى، وفي الوقت نفسه في العمل من أجل التحرر من الانتداب الفرنسي وصولًا إلى الاستقلال. لكن بعض مقومات المواطنة من دون تسميتها كالحريات الأساسية والديمقراطية والمساواة بين المواطنين أيًّا كان انتماؤهم الإثني أو الديني أو الطائفي أو الطبقي أو المناطقي كانت تتواجد في برامج أهمِّ الأحزاب الممثلة لهذه القوى مثلما تجلت عمليًّا في مواقفها في إطار المؤسسات المنتخبة كالجمعيتين  التأسيسيتيْن في ظل الانتداب وبعد الاستقلال اللتين وضعت الأولى منهما دستور 1930 والثانية دستور عام 1950. هكذا كانت نخبة هذه القوى على وعي تام وإيمان بمبادئ الديمقراطية والحرية والمواطنة المنصوص عليها في دستور 1930 والتي اعتمدها ممثلو هذه القوى وخصوصًا الكتلة الوطنية التي “كانت قد حققت انتصارًا ساحقًا في انتخابات الجمعية التأسيسية عام 1928 التي وضعت دستورًا وطنيًا ليبراليًا علمانيًا”(15)، وذلك على الرغم من المادة 116 التي أضافها المفوض السامي الفرنسي والتي قيَّدَ بها عمليًا مفاعيل الدستور كليًا طوال فترة الانتداب، ولم يجر تفعيله إلا خلال فترة قصيرة على إثر الاستقلال انتهت بإصدار دستور 1950. على أن ذلك لا يعني في الوقت نفسه أن وعي النخبة السورية في النصف الأول من القرن العشرين بضرورة النظام الديمقراطي وبكل ما يقتضيه على صعد الحريات وشكل الدولة ونظام الحكم كان منفصلًا عن الواقع الاجتماعي والسياسي. فقد كان عبد الرحمن الشهبندر أول من كتب حول المسافة القائمة بين عامة الناس وبين نخبهم ، وهي مسافة كانت تؤدي غالبًا إلى الدفع نحو مقدمة المشهد السياسي بمن لا يملكون الأهلية الكافية أو الثقافة الضرورية للمهمات التي تقدموا للقيام بها بحيث تكون النتيجة “تحكيم الأكثرية العظمى الجاهلة من سواد الشعب في النخبة المنتخبة من أبنائه”(16)، بحيث  تستحيل الديمقراطية وبالًا على البلد وعلى أهله. وذلك ما حمله، مثلًا، حين أسس في عام 1925 حزب الشعب، على أن يحدد في مواد قانونه الأساسي أهداف الحزب المتمثلة في تحقيق جملة مبادئ تضم في آن واحد بينها ضمان “جميع الحريات الشخصية” من ناحية، وكذلك، خصوصًا، “تدريب البلاد نحو سياسة اجتماعية ديمقراطية مدنية”(17). حمل هذا الرأي الواقعي  الشهبندر على قبول فكرة “المستبد العادل” في كتابه “القضايا الاجتماعية الكبرى” التي لم تجد مع ذلك طريقها من بعده إلى من يعتمدها ويجسدها بطريقة أو بأخرى في دستور 1950 الذي كان من أهدافه، كما جاء في مقدمته، التأكيد على اعتماد النظام الديمقراطي وضمان الحريات العامة لكل مواطن بوصفها “أسمى ما تتمثل فيه معاني الشخصية والكرامة الإنسانية” والذي وضعته أول وآخر جمعية تأسيسية جرى انتخابها وفق الأصول الديمقراطية في سورية المستقلة.

   يقود هذا الاستعراض السريع للكيفية التي تجلى بها مفهوم المواطنة في مواقف القوى السياسية خلال فترة ما قبل استقلال سورية، إلى مقاربة تلك التي تجلى بها حضورًا أو غيابًا في برامج مختلف أحزاب القوى السياسية الفاعلة في سورية المستقلة التي لعبت، بحكم وجودها في السلطتين التشريعية والسلطة التنفيذية، دورًا واضحًا  في ترسيخ مقوماته أو في تغييبه خلال فترات التناوب التي عاشتها سورية بين مختلف الانقلابات العسكرية اعتبارًا من عام 1949 وبين استعادة الحياة الديمقراطية لسنوات أربع بدءًا من  عام 1954، وصولًا إلى المرحلة البعثية عام 1963 ثم الحقبة الأسدية التي تلت الانقلاب الأخير عام  1970، ومحاولة مجموعة من الأحزاب اليسارية طرح بديل سياسي من أجل التغيير عام 1980، وأخيرًا إلى انطلاق الثورة السورية عام 2011 والقوى السياسية الرئيسة التي شهدتها السنوات العشر التي تلتها.

   كان معظم أعضاء الجمعية التأسيسية التي وضعت خلال عام 1949 الدستور الذي اعتمد عام 1950 ينتمون إلى الحزبين اللذين كانا يؤلفان قبل الاستقلال ما كان يُعرف بالكتلة الوطنية، أي الحزب الوطني وحزب الشعب اللذين اعتمد كلٌّ منهما في برنامجه، كما سبقت الإشارة، عددًا من مقومات المواطنة الأساسية التي أكدها ممثلوهما في الجمعية التأسيسية في الدستور الذي وضعته(18)، بالإضافة إلى ما عرف بالكتلة الجمهورية التي لم تكن حزبًا بقدر ما كانت تجمعًا سياسيًا من النواب في المجلس النيابي الذي بدأ جمعية تأسيسية. على أن ثمة أحزابًا غير الكتلة الوطنية كانت قائمة أيضًا قبل الاستقلال كالحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي  والحزب التعاوني الاشتراكي، وأخرى ولدت على إثر الاستقلال مثل الإخوان المسلمون وحزب التحرير العربي وحزب البعث العربي الاشتراكي، تباينت مواقفها من بعض مقومات المواطنة التي كان حزبا الكتلة الوطنية قد ثبَّتاها في الدستور الذي أعيد العمل به ـ على إثر الانقلابات العسكرية التي توالت بين عامي 1949 وعام 1954، وهي التي ستجري مقاربتها الآن قبل الخوض في واقع المواطنة اعتبارًا من عام 1970 وحتى اليوم.

   في نهاية أول مؤتمر وطني للحزب الشيوعي في سورية ولبنان جرى عقده في نهاية سنة 1943 وأوائل عام 1944(19) تمَّ إقرار الميثاق الوطني للحزب الذي تضمن نصًّا صريحًا على عدد من مقومات مفهوم المواطنة الأساس: “نظام جمهوري ديمقراطي صحيح؛ المساواة بين جميع السوريين على اختلاف أديانهم وعناصرهم وتحقيق روابط الإخاء والتضامن بينهم؛ تأمين الحريات الديمقراطية العامة والفردية، وفي مقدمتها حرية الضمير والكلام والصحافة والنشر والاجتماع وإنشاء الجمعيات والأحزاب والنقابات وحرية العبادة واحترام عقائد الناس الدينية”(20).

   لا تختلف هذه المبادئ التي اعتمدها الحزب الشيوعي عام 1943/ 1944 في مجال حقوق المواطن الأساسية عن تلك التي تبناها المشرعون السوريون الذين كانوا يمثلون الكتلة الوطنية في الجمعية التأسيسية التي وضعت دستور 1930. وهي المبادئ التي أعاد الحزب الشيوعي تأكيدها بمناسبة الانتخابات النيابية عام 1954 التي فاز فيها خالد بكداش ممثلًا ومحققًا لحزبه تواجده للمرة الأولى في السلطة التشريعية.

   أما برنامج الحزب التعاوني الاشتراكي الذي تأسس عام 1940 ووصل إلى المجلس النيابي في عام 1947، فقد قفز في مبادئه العشرة على مجمل حقوق المواطن والمواطنة الأولية في الحرية أو في حق المشاركة السياسية والاجتماعية وكذلك على حق المساواة بين المواطنين. ولابد لمن يقرأ هذه المبادئ أن يتفق مع خالد العظم الذي كان يرى أن الحزب التعاوني الاشتراكي نظم على نمط الأحزاب الفاشية أو الهتلرية، وأن قائده كان يتصرف كما لو كان قائدًا عسكريًا يأمر وينهي فينفذ الأعضاء ما يأمر به(21). وعلى غرار مواقفه من حقوق المواطن والمواطنة، لم يكن برنامج الحزب السوري القومي الاجتماعي ـ وهو الحزب الوحيد في سورية الذي تجاوز الدين والعروبة معًا ليقول بوجود “أمة سورية”، داعيًا إلى القومية السورية الذي تأسس عام 1932، لا في مبادئه الأساسية الثمانية ولا في مبادئه الإصلاحية الخمسة ، أكثر اهتمامًا بما تمليه حقوق المواطن والمواطنة من الحزب التعاوني الاشتراكي، على ما بينهما من اختلاف في الأهداف والمنطلقات والأيديولوجية والبرنامج والمفاهيم. إذ لم يرد في أي من هذه المبادئ  الثلاثة عشر أية إشارة أو ذكر لحقٍّ من حقوق المواطنين أو لواجباتهم. بل لعله يبدو أكثر تأكيدًا على ما يتناقض مع حقوق الإنسان الطبيعية حين يقول في معرض تفسيره للمبدأ الثاني  الذي ينص على “منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين” أنه “لا بد للدولة القومية من وحدة قضائية- وحدة شرعية. وهذه الوحدة التي تجعل جميع أعضاء الدولة يحسون أنهم متساوون أمام القانون الواحد أمر لا غنى عنه.  لا يمكن أن تكون لنا عقلية واحدة ونعمل بمفاهيم مختلفة متنافية مع وحدة المجتمع”(22).

   على أن حزب البعث العربي الذي بدأ مؤسسوه نشاطهم السياسي في ظل الانتداب اعتبارًا من عام 1942 وعقدوا المؤتمر التأسيسي عام 1947 والذي حمل بعد اتحاده  في بداية عهد الشيشكلي عام 1952 مع الحزب العربي الاشتراكي اسم حزب البعث العربي الاشتراكي، لم يكن هو الآخر في المبادئ الثلاثة أو في المبادئ العامة التي تضمنها دستوره أكثر اهتمامًا ومن ثمَّ تفصيلًا في التعبير عن اهتمامه بالمواطنة وما تقتضيه من حقوق أساسية. وإذا كان دستور الحزب قد نص بوضوح على أن نظام الحكم في “الدولة العربية” نظام نيابي دستوري، وأن السلطة التنفيذية مسؤولة أمام السلطة التشريعية التي ينتخبها الشعب مباشرة، إلا أنه نص أيضًا بوحي من  شعاره الأساس “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” على أن “الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي يكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة أمةٍ واحدة، وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية”(23).

   كان ذلك كما هو واضح تعبيرًا عن طموحات حزب يستعيد تراث أهداف ومبادئ النضال القومي في ظل الإمبراطورية العثمانية، ثم في مواجهة المخططات الاستعمارية في العالم العربي. لكنه كان أيضًا على الصعيد العملي محاولة استجابة لما كانت تقتضيه المرحلة التي كانت تنوس بين فترات الانقلابات العسكرية وتلك التي كان الحزب الوطني وحزب الشعب يهيمنان خلالها على المجلس النيابي بحكم شعبيتهما التي اكتسباها طوال فترة الانتداب واحتفظا بها على إثر الاستقلال. إذ لم يكن من الممكن للحزب يومئذ أن  يتجاهل ضرورة الديمقراطية كي يتمكن من تحقيق هدف مباشر رئيس هو الوصول إلى السلطة تحت قناع أهدافه المعلنة التي يتطلع إلى إنجازها والتي لم تكن في الواقع أكثر من صيغ طوباوية لم يكن لها أي أساس واقعي أو اجتماعي أو تاريخي يبررها أو يؤسس لها على النحو الذي صيغت به، ولاسيما بما كانت تقتضيه من تجاهل خطير للتعددية التي عرفها العالم العربي طوال تاريخه لا على صعيد الإثنيات شرقًا وغربًا أو على صعيد الأديان أو المذاهب أو الطوائف فحسب، بل كذلك على صعيد التطورات التاريخية/ الاجتماعية الخاصة بكل منطقة من مناطق العالم العربي الأربع: الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق ووادي النيل والمغرب. ولهذا السبب على وجه الدقة، لم يكن متوقعًا ان تكون المواطنة ومقوماتها في أولويات مبادئه مادام المواطن بوصفه فردًا غائبًا كليًا عن أولوياته.

   ومع ذلك، ستقوم بين هذه الأهداف الكبرى النظرية وبين واقع الممارسة الواقعية مسافة كبرى اعتبارًا من عام 1958 حين  قررت قيادة الحزب في بدايته حل الحزب تنفيذًا لشرط القيادة المصرية حلَّ الأحزاب في سورية قبل إنجاز الوحدة السورية المصرية،  ثم على إثر الانقلاب العسكري عام 1963 الذي شارك في تنفيذه عسكريون بعثيون، أو زعموا ذلك، ما لبثوا أن بدأوا بتصفية رفاقهم في عملية الانقلاب الأولى، ثم القيام بانقلاب 23 شباط/فبراير 1963من أجل القضاء على القيادة التاريخية للحزب ذاتها وكي تتأكد هيمنة اللجنة العسكرية على الحزب والبلد، مع فتح الطريق أمام حافظ الأسد كي يقوم بتصفية رفاقه في اللجنة سجنًا أو اغتيالًا على إثر انقلابه الموسوم بـ”الحركة التصحيحية”  في عام 1970 وكي ينفرد في الحكم قائدًا للحزب وللدولة وللجيش في سورية التي ستوسم منذئذ بوصفها “سورية الأسد”.

   كان مآل هذه الصراعات داخل الحزب أن استحال فعليًّا، منذئذٍ، أداة بيد عسكري جعل منه واجهته المدنية المهيمنة الوحيدة دستوريًا وواقعيًا حين ضمن دستوره الصادر عام 1973 النص في المادة الثامنة على أنَّ “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية”.  ومع قيادة الحزب لجبهة تضم سبعة أحزاب صارت موالية كليًا للحكم الوحيد بعد أن مزقتها الخلافات والصراعات والانقسامات، وهي  الحزب الشيوعي، والاتحاد الاشتراكي العربي، وحزب الوحدويين الاشتراكيين، وحركة الاشتراكيين العرب، والحزب الوحدوي الاشتراكي الديمقراطي، والاتحاد العربي الديمقراطي، والحزب السوري القومي الاجتماعي، وتكليف المنظمات الشعبية والجمعيات التعاونية التي بوصفها “تنظيمات تضم قوى الشعب العاملة من أجل تطوير المجتمع وتحقيق مصالح أفرادها” كما نصت المادة التاسعة من الدستور نفسه، لم بتمّ تجاوز حقوق المواطنين كلها سوى الطاعة والانخراط في الأطر التي قررها وحددها قائد الانقلاب فحسب، بل وكذلك محاصرة المواطنين أفرادًا وجماعات ووضعهم تحت الرقابة المستمرة فضلًا على وضع المجتمع بأكمله وتفريغه كليًّا من السياسة بعد وقف احتكارها على “القائد إلى الأبد”، وهو ما أدى فعليًّا خلال خمسين عامًا إلى تغييب حقوق المواطنة كلها جنبًا إلى جنب مع تغييب الديمقراطية ضمانها وشرطها الأساس.

   لم يكن ذلك يعني بطبيعة الحال سيادة هذا التغييب للديمقراطية ولحقوق المواطنة معها نهائيًا في حياة السوريين. ولعل محاولات النظام تعميم هذا التغييب قد أسهمت من جانبها في تفجير وعي نخبة من السوريين كانت، على اختلاف رؤاها وابتعاد بعضها عن مفهوم الديمقراطية والمواطنة، قد ثارت على وانفصلت عن البنى الحزبية التاريخية التي انتهى بها الأمر إلى الانضواء تحت قيادة الحزب في إطار ما سمّي بالجبهة الوطنية التقدمية. وهو ما أتاح لها التعبير بحرية عما تراه بالفعل معضلة النظام الأسدي المتمثل في الاستبداد والتسلط،. تجسَّد هذا التعبير في بيان سياسي غير مسبوق في ظل النظام الأسدي، حمل عنوان “بيان إلى الشعب، من أجل الحرية والديمقراطية والتغيير“، صدر في منتصف آذار 1980 باسم التجمع الوطني الديمقراطي(24) الذي كان قد تأسس عام 1979 بعد حوار ديمقراطي بين خمسة أحزاب سياسية هي حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، والحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، وحزب العمال الثوري العربي ، وحركة الاشتراكيين العرب، وحزب البعث العربي الاشتراكي الديمقراطي.

   لم يتعرض هذا البيان لمفهوم المواطنة، لكنه تضمن معظم المفاهيم التي تعنيها والتي يفترض أن تؤدي إليها: مطالب مباشرة في الحرية والعدالة والديمقراطية وانتخاب جمعية تأسيسية من أجل صوغ دستور للبلاد “يقوم على مبادئ الحرية والديمقراطية والمساواة بين المواطنين”. لكن صدوره كان يومئذ تعبيرًا عن حركة شعبية واسعة كان مطلبها الأساس، كما يشير البيان في مقدمته، “الديمقراطية وعودة السيادة للقانون وللشعب”. يمكن النظر إلى هذا البيان اليوم بوصفه دليلًا على أن الحراك الثوري الذي عرفته سورية في آذار 2011 لم يولد من عدم، كما لم يكن انطلاقه أيضًا بفعل تأثير ثورات الربيع العربي الأخرى وإن كان قد جرى ضمن سياقها ورافقها، بل كان حلقة أخرى في سلسلة لم تتوقف عن مواصلة مقاومة الاستبداد والتسلط واستعباد البشر والبلاد. وقد تلتها حلقة أخرى على إثر وأد النظام الأسدي الوريث لربيع دمشق 2000/2001 وإغلاق المنتديات الوليدة فضلًا على اعتقال عدد كبير من المثقفين والناشطين ممن وقعوا عريضة الـ 99 التي طالب فيها موقعوها بالتعددية السياسية والفكرية في ظل سيادة القانون، ثم البيان الذي وقعه 1000 من المثقفين في سورية وتضمن المطالبة بنظام ديمقراطي متعدد الأحزاب مع التركيز على الحريات العامة  ورفع حالة الطوارئ والأحكام العرفية القائمة منذ عام 1963، وسيادة القانون والاعتراف بحرية التجمع والصحافة وحرية التعبير، والإفراج عن السجناء السياسيين، وإنهاء الوضع الخاص لحزب البعث بوصفه “الحزب القائد في المجتمع والدولة”(25). وفي نهاية عام 2001، أعلن التجمع الوطني الديمقراطي عن نفسه “حركة سياسية معارضة تنتهج أسلوب المعارضة الديمقراطية العلنية”، ونشر برنامجه السياسي مفصّلًا رؤيته في 1). بناء الدولة الحديثة الذي يقتضي خصوصًا حرية الفرد واحترام حقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين وفصل السلطات وانتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور ديمقراطي جديد يعتمد مبدأ سيادة الشعب سيادة القانون، وإطلاق الحريات العامة ولاسيما حرية العمل الاجتماعي والسياسي والتنظيم وكذلك إنهاء عهد الدولة الأمنية وتدخل الأجهزة الأمنية في حياة المواطنين وشؤونهم؛ وفي 2). الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وفي أسس إصلاح البناء الاقتصادي والاجتماعي، وفي  3). السياسة العربية والدولية.

   أما “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي”(26)، الذي صدر في شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 2005 بمبادرة من التجمع الوطني الديمقراطي ومجموعة من الأحزاب المعارضة الأخرى التي شاركت في التوقيع عليه أو في الانضمام  إلى موقعيه بعد صدوره،  فقد كان خلال العهد الأسدي التعبير الأشمل عما كان يتطلع إليه السوريون قبل أن يطلق شبابهم الحراك الثوري الجذري في آذار 2011، على الرغم من أن صدى مضمونه الذي يقف على النقيض من ممارسات النظام الأسدي حملت هذا الأخير على اعتقال العديد من الموقعين على الإعلان بهدف الحيلولة دون صيرورته موضوع الساعة لدى السوريين على اختلاف اتجاهاتهم ورؤاهم، وهذا على الرغم من أن إطار المقترحات جميعها فيه كان يقوم على انتقال تدريجي وسلمي إلى الديمقراطية بمشاركة الجميع كما جاء في نص الإعلان: “التوجه إلى جميع مكونات الشعب السوري ، إلى جميع تياراته الفكرية وطبقاته الاجتماعية وأحزابه السياسية وفعالياته الثقافية والاقتصادية والاجتماعية ، وإفساح المجال أمامها للتعبير عن رؤاها ومصالحها وتطلعاتها ، وتمكينها من المشاركة بحرية في عملية التغيير”.

     جـ . لدى الأحزاب والهيئات بين 2011 و2021

   ما إن  قامت الثورة في آذار 2011، حتى برز في المشهد السوري عدد من التنظيمات ذات طابع إسلامي، لم تكن الديمقراطية هدفها ولا حقوق المواطنة ومقوماتها جزءًا من مبادئها المعلنة أو من أهداف نضالها. كان بعضها حديث النشأة كالتيارات السلفية المتشددة أو  التنظيمات  ذات الطابع الجهادي كتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو الجبهة الإسلامية التي ضمت عددًا من الفصائل كجيش الإسلام وأحرار الشام  وصقور الشام ولواء التوحيد وسواها والتي حلت نفسها في عام 2015، أو جمعية الأصالة والتنمية ذات الاتجاه السلفي، وهيئة تحرير الشام (النصرة سابقًا)، وبعضها الآخر كان أكثر قِدَمًا وشهرة كجماعة “الإخوان المسلمين” السورية التي تعتبر نفسها ممثلة للاتجاه الإسلامي المعتدل في سورية والتي كثفت مع انطلاق الثورة نشاطها الإغاثي والسياسي والعسكري، مثلما عملت على تجديد خطابها السياسي ومحاولة تقديم رؤية جديدة عن سورية المستقبل كما تراه، أو الحزب الوطني للعدالة والدستور الذي على إعلانه تبنيه الإسلام الوسطي تبنّى مفهوم الحرية والمواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات والفصل بين السلطات(27).

   لم تكن التنظيمات الوطنية الأخرى التي جعلت من الوصول إلى النظام الديمقراطي وفصل السلطات هدفها الأول أقل عددًا وعدّة، أولها تيار “مواطنة” الذي عقد مؤتمره التأسيسي بعد أقل من شهر من انطلاق  الثورة السورية، في منتصف آذار 2011 وأصدر “العهد الوطني” الذي نص على “السعي المشترك لبناء الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة التي تضمن المساواة التامة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وحرية الأفراد، انطلاقًا من الإقرار بمبدأ المواطنة الذي ينظر لجميع المواطنين بشكل متساوٍ بغض النظر عن انتماءاتهم المختلفة”، وكذلك على “التنوع المجتمعي ومعتقدات ومصالح وخصوصيات كل أطياف الشعب السوري”(28)، وهو تيار لا يزال يمارس فعالياته كأحد التيارات الوطنية العلمانية في المشهد السياسي السوري، ومنها هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطي التي تأسست في شهر آب 2011 وضمّت إثني عشر حزبًا قديم العهد لكنها اختلفت عن أحزاب وتنظيمات المعارضة الأخرى حين أعلنت استعدادها بل ومطالبتها بإطلاق حوار جادٍّ بين السلطة وممثلي الشعب الثائر إذا ما حققت السلطة عددًا من الشروط الضرورية(29) لبدء مثل هذا الحوار. أما الأحزاب والتنظيمات الوطنية الأخرى التي كانت حديثة العهد فقد نادى معظمها في برامجه بالديمقراطية وبإقرار حقوق المواطنة والمساواة وفصل السلطات كالهيئة العامة للثورة السورية التي تشكلت في بداية الثورة  ولجان التنسيق المحلية التي نظمت ورافقت التظاهرات الأولى في آذار 2011 أو المجلس الأعلى لقيادة الثورة السورية الذي أعلن عنه في العام نفسه، أو اتحاد الديمقراطيين السوريين الذي أعلن عنه في عام 2013. أما حزب الجمهورية الذي وضع في مؤتمره التأسيسي برنامجه السياسي العام في نيسان/ أبريل 2014 فقد كان الحزب الوطني السوري الأكثر إلحاحًا على أهمية حقوق الإنسان والمواطن حين كرَّس لها فصلًا خاصًا بها  في برنامجه السياسي يبرهن به على الأهمية القصوى والأولوية المطلقة لتفعيل مفهوم المواطنة وحقوق المواطن في سورية المستقبل التي يلتزم الحزب العمل من أجل إقرارها دستوريًا والعمل بموجبها فعليًا(30).

     ت‌. لدى أحزاب وتيارات الإسلام السياسي

   ما كان لمثل هذه الدراسة حول المواطنة أن تختصَّ الأحزاب والتيارات الدينية بفقرة خاصة حول مواقفها منها لو كانت تتناول مكانتها وشروطها في بلد ديمقراطي اعتمد رسميًا حقوق المواطن والمواطنة في مبادئها الأساس، ولاسيما مبدأ المساواة بين المواطنين بمعزل عن أصولهم الإثنية أو معتقداتهم الدينية أو المذهبية مساواة كاملة في الحقوق وفي الواجبات. ويكاد حزبا الكتلة الوطنية، الحزب الوطني وحزب الشعب،  الحزبان الوحيدان اللذان اعتمدا حقوق المواطنة المشار إليها في نظاميهما مثلما عمل ممثلوهما في الجمعية التأسيسية الأولى بعد الاستقلال على اعتماد هذه المبادئ في دستور 1950. صحيح أن مفهوم المواطنة والمواطنة المتساوية بين المواطنين كافة ولاسيما بين النساء والرجال لم يكن معتمدًا في عدد من ميادين الأحوال الشخصية، لكن مبدأ المساواة نفسه كان معتمدًا وكانت سورية أول دولة في العالم العربي نصَّت في قانون الانتخابات الذي  صدر عام 1949 على حق المرأة في ممارسة الانتخاب كما سبقت الإشارة.

   على أن المواطنة لم تكن، وفق مفهومها الراهن اليوم حقوقًا وواجبات وقيمًا ومساواة على الصعد كافة، تحتل مكانة ما في برامج ونظم مختلف التيارات الإسلامية التي عرفها العالم العربي خلال القرن العشرين، وخصوصًا أهمها، أي برنامج أو نظام  التيار الرئيس في الإسلام السياسي، جماعة “الإخوان المسلمون”. وكان لابد من انتظار بدايات القرن التالي كي يُعاد النظر في أسس مشروعهم وخطابهم السياسي الذي سيتجلى في ثلاثة وثائق تعاقب نشرها في أعوام  2001 وو2004 و2012. كانت الوثيقة الأولى “ميثاق الشرف الوطني” الصادرة في 3 أيار/مايو 2001 التي كانت تستهدف دعوة القوى الفكرية والسياسية السورية إلى إطار لقاء مشترك بينها يعتمد “الحوار الديمقراطي والعمل المشترك بينها جميعًا وسيلة لتحقيق الأهداف في فهم وحل مشكلات سورية، والذي كان شبه إعلان عن اعتماد رؤية سياسية واجتماعية جديدة سوف تعبر عنها بصورة أكثر تفصيلًا وشمولًا الوثيقة التالية التي حملت عنوان “المشروع السياسي لسورية المستقبل”(31) الصادرة في 16 كانون أول/ ديسمبر 2004، والتي يمكن اعتبارها نسبيًا وثيقة تجديد نظرة الإخوان المسلمين في بعض تفاصيل التنظيم السياسي للدولة ولنظام الحكم. تمثل ما يمكن اعتباره تجديدًا، على سبيل المثال، في اعتبار الشعب مصدر السلطات، وفي قبول تداول السلطة في نظام ديمقراطي حصرًا؛ وكذلك في استخدام مفهوم المواطنة للمرة الأولى في وثائقه الثلاث، وإن بقدر ملحوظ الالتباس والتباين، في إطار باب خصص لـ “مرتكزات الدولة الحديثة”(32). فالمواطنة في هذا النص “مفهوم قديم يعبر عن الانتماء السياسي” تارة، والمواطنة هي ذاتها “انتماء سياسي” تارة أخرى؛ وفي محاولة تأصيل مفهوم المواطنة انطلاقًا من “وثيقة المدينة النبوية”، تحل المواطنة بوصفها “الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها (…) محل مفهوم أهل الذمة”، قبل أن يصل إلى أن أساسها هو “المشاركة الكاملة، والمساواة التامة، في الحقوق والواجبات السياسية والمدنية التي يكفلها الدستور وتنظمها القوانين”، هذا ــ وهنا المفارقة الأولى ــ مع بقاء مسألة الأحوال الشخصية (زواج وطلاق ومواريث..) والحقوق الدينية محفوظة طبقًا لعقيدة كل مواطن”. لكن اعتماد عناصر التجديد هذه يجري في إطار المبادئ الأساس التي اعتمدتها الجماعة منذ تأسيسها في مصر والمتمثلة في أن الإسلام “دين عبادات ودين معاملات”، وأنه “لا يفصل الدين عن السياسة”. وربما اعتمادًا على هذا المشروع، نشر عصام العطار، الذي شغل ذات يوم منصب المراقب العام لجماعتهم في سورية، في بداية الثورة السورية، بيانًا في آذار/مارس 2011، دعا فيه إلى “ثورة لرفع الظلم والطغيان عن الجميع، وتحقيق العدل والمساواة والحرية للجميع”، وكذلك إلى لمِّ شتات البلاد كلها “بمختلف أديانها وأعراقها وأطيافها على أساس جديد من المواطنة والمساواة والعدل والإحسان”(33). كما لو كان يريد بذلك تثبيت ما أعلنت عنه الجماعة قبل سبع سنوات في مشروعها السياسي لسورية المستقبل، خصوصًا على صعيد مفهوم المواطنة الذي سيستعاد مرة ثالثة في وثيقة “عهد وميثاق”(34) الصادرة بتاريخ 25 آذار/ مارس 2012 . وهي في الحقيقة- دون نكران لأهميتها- ، في صياغتها وفي اختلاف مضامينها عن تلك التي تضمنها “المشروع السياسي لسورية المستقبل، أقرب إلى أن تكون بيانًا انتخابيًا مرتبطًا بظروف إصداره ــ وهي هنا الحراك الثوري الشامل في سورية ــ منها إلى وثيقة مبادئ أساس. ذلك أن مفهوم دولة سورية المأمولة، كما جاء فيها على سبيل المثال، الذي يقوم على أنها “دولة  مواطنة ومساواة، يتساوى فيها المواطنون جميعاً، على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم، تقوم على مبدأ المواطنة التي هي مناط الحقوق والواجبات، يحقّ لأيّ مواطنٍ فيها الوصول إلى أعلى المناصب، استناداً إلى قاعدتي الانتخاب أو الكفاءة. كما يتساوى فيها الرجالُ والنساء، في الكرامة الإنسانية، والأهلية، وتتمتع فيها المرأة بحقوقها الكاملة” يحمل على التساؤل عما إذا كان هذا التعريف ينسجم مع ما ورد في نص المشروع السياسي المذكور آنفًا حول الإسلام بوصفه “دين عبادات ودين معاملات” وأنه “لا يفصل بين الدين والسياسة؟ بعبارة أخرى، هل يمكن قراءة “عهد وميثاق” بمعزل عن “المشروع السياسي لسورية المستقبل”؟

   لعل الإجابة عن هذا السؤال تجد سبيلها لدى يوسف القرضاوي الذي كان قد كتب استجابة للأمانة العامة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث بحثًا حول “الوطن والمواطنة، “كي تفتتح به الندوة الفكرية الفقهية التي عقدتها الأمانة حول موضوع المواطنة والاندماج بالنسبة للأقليات المسلمة في أوربا وغيرها”، صدر فيما بعد ضمن كتاب تحت عنوان: “الوطن والمواطنة في ضوء الأصول العقدية والمقاصد الشرعية”(35). ويمكن اعتبار هذا الكتاب- على الرغم من الاختصارات العديدة في طريقة عرضه للمصطلحات ولتأويلاته التي تزيدها التباسًا أو القفزات البهلوانية في استخدامه معًا مفهوم “الوطنية” ومفهوم “المواطنة”-ترجمة صريحة وواضحة لموقف جماعة “الإخوان المسلمين” ومن ورائها مختلف التيارات الإسلامية التي تحاول جميعها تسويق رؤيتها لواحد من المفاهيم القانونية والسياسية الحديثة من خلال تأصيله عبر محاولة تحديث قراءة التراث التي تعتمدها اساسًا بإعادة تفسيره أو تعديل مصطلحاته في ضوء متطلبات الواقع المعاصر. وهو في الوقت نفسه ترجمة لموقف الجماعة من مسألة “فصل الدين عن الدولة”.

   هناك جملة عابرة في هذا الكتاب، وردت بمناسبة الحديث عن الذين كان يُطلَقُ عليهم “أهل الذمة” وضرورة اعتبارهم مواطنين كغيرهم من شركائهم من المسلمين ما داموا من “أهل الدار” هي: “وبذلك تُحَلُّ هذه الإشكالية من داخل الفقه الإسلامي، من دون الحاجة إلى استيراد مفهوم المواطنة من سوق الفكر الغربي”(36)، تفيد بوضوح أن استخدام كلمة المواطنة في هذا الكتاب لا يعني استيرادها مفهومًا، أو بالأحرى رفض مفهومها الغربي، بقدر ما يعني تأصيل مفهوم إسلامي لها لا صلة له بأصوله الغربية. يبدأ الكتاب بتقديم أصول ومبادئ ما يعتبره وثيقة أو صحيفة “المواطنة” الأولى في الإسلام، مُحَدِّدًا معنى المواطنة فيها بوصفها “العيش في وطن واحد هو المدينة” في “أول دستور ينظم العلاقة بين المواطنين- مختلفي الديانات- في دولة ناشئة”(37)، كي ينتقل بعدئذ إلى تأصيل معنى “الوطن” في تاريخ المسلمين، الذي يتسع ليضم “كلَّ أرض تجري فيها أحكام الإسلام”. محاولًا تأصيل بعض حقوق المواطنة عبر تأويل معاصر لأحداث التاريخ الإسلامي، ولاسيما في مجال اعتبار غير المسلمين في مجتمع إسلامي من “أهل الدار” مقترحًا هذه الصفة بديلًا عن “أهل الذمة” مفتاح المشكلة بما أنهم أهل الوطن وبالتالي فهم “مواطنون”، على غرار قبول عمر بن الخطاب تغيير كلمة “الجزية” واستخدام كلمة “صدقة” مكانها بعد أن طلب إليه نصارى بني تغلب ذلك، وبذلك يتحول مفهوم “المواطنة” من مفهوم “مستورد” إلى مفهوم “إسلامي”. لكن القرضاوي يقفز على مفهوم “المشاركة” الذي تنطوي عليه كلمة “المواطنة” في وزنها “مفاعلة” أي مشاركة، ويقترح بديلًا لها “الأخوة الوطنية”  التي تعني المعاونة والمناصرة والتكافل، وتذيب الفوارق بين الناس في اللون والأصل واللغة والطبقة. أما إشكالية قضية الوطنية والمواطنة كما يسميها  فهي تتجلى إما في تعارض الولاءات والانتماءات الذي يجب أن يوضع فيها الانتماء إلى الدين فوق كل انتماء آخر؛ أو في اقتران الوطنية بالعلمانية لأن فكرة الوطنية كما يراها “ليست مسكونة بالعلمانية التي تفصل الدين عن الدولة “بل عن الحياة” كما يكتب  نظرًا لـ”شمولية الإسلام الذي عرفه الناس من مصادره الأصيلة: عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، دعوة ودولة، دينًا ودنيا”(38)؛ أو في “الغلو في الوطنية حتى تصبح بديلًا عن الدين”؛ أو عندما تتحول الوطنية إلى عصبية جاهلية”. على أنه لا يتردد في المزج بين مفهوم “الوطنية” و”المواطنة” حين يستعرض آراء من يسميهم “رجال الإصلاح” مثل حسن البنا وأبو الأعلى المودودي اللذين لا يرد في كتابات أيٍّ منهما أي ذكر لمفهوم المواطنة كما هو متداول اليوم غربًا وشرقًا.

   سوى أن محاولة تأصيل مفهوم المواطنة دفعًا لاستيراده من الغرب بقصره على تأكيد المساواة بين المسلمين وغير المسلمين في بلاد المسلمين خلت من حقوق المواطن الأخرى الأساس التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بما تعنيه من الحريات الفردية  والحريات العامة التي يمكن أن تصطدم مع يراه الإسلاميون حقوق الله وحرماته، فضلًا على الموقف من المرأة ومساواتها في الحقوق والواجبات مع الرجل مساواة كاملة. ومن ثمّ بقي مفهوم المواطنة “الإسلامي” الذي أراد القرضاوي تأصيله قاصرًا عن ملء الفراغ الذي يمكن أن ينشأ عن التخلي عن مفهوم حقوق الإنسان العالمي لقاء تبني “المفهوم القرضاوي”. ولا يمكن تفسير قصوره إلا بما عبر عنه القرضاوي صراحة في كتابه من رفض فصل الدين عن الدولة رفضًا قاطعًا، واعتبار الإسلام دينًا شموليًا لا يقبل الفصل فيه بين فضاء السياسة وفضاء الدين.

     ج. المؤسسات الثقافية وكتابات المثقفين

    في ضوء ما سبق من طبيعة حضور مفهوم المواطنة سواء في الدساتير السورية المتوالية حيث كانت المواطنة محض نصٍّ صوري، أو في برامج القوى السياسية بما فيها برامج أو فكر التيارات الدينية الطامحة منها خصوصًا إلى القيام بدور سياسي، لا يمكن الحديث عن وجود مؤسسات رسمية أو شبه رسمية أو خاصة اهتمت على نحو جادٍّ بمفهوم المواطنة قبل انتفاضة السوريين في عام 2011. أما اهتمام المثقفين السياسيين والقانونيين السوريين بقضية المواطنة مفهومًا ودلالات بمضمونها المعاصر في الدول الديمقراطية فلم يجر التعبير عنه في سورية إلا منذ ثلاثة عقود، ولقاء ثمن باهظ دفعه كل من جرؤ على مثل هذه المبادرة، سجنًا أو طردًا من العمل أو ملاحقة أمنية مستمرة.

    * المؤسسات الثقافية ومفهوم المواطنة:

   على أن انتفاضة السوريين في عام 2011 دمرت منذ بداياتها جدران الخوف وحواجز الرقابة على التعبير عن الرأي. وإذا كان مطلب إسقاط النظام آنئذ يعني مطلب الوصول إلى الديمقراطية تحت شعار الحرية والكرامة، فقد كان يعني في الوقت نفسه بناء على ذلك تحقيق معاني مفهوم المواطنة للسوريين الذين حرموا منها عمليًا وكليًا منذ أربعين عامًا. وهو ما يفسر في واقع الأمر وجود هذا المفهوم في أولويات مراكز الدراسات والأبحاث السورية أو المواقع الفكرية والسياسية التي  توالت منذ نهاية عام 2011 في عدد من البلدان التي اضطر السوريون إلى اللجوء إليها، والتي يمكن الإشارة هنا إلى ثلاثة منها حسب تاريخ تواجدها في الفضاء العام.

   أولها، الرابطة السورية للمواطنة. كان أول من انتبه من المثقفين السوريين إلى أهمية مفهوم المواطنة بوصفه أساس قيام دولة ديمقراطية وإلى ضرورة عمل جماعي تربوي يستهدف التثقيف والتوعية بشروط ومقومات ومعاني ودلالات هذا المفهوم على الصعيدين النظري والعملي هو حسان عباس(39) الذي بادر إلى القيام مع عدد من أصدقائه بتأسيس “الرابطة السورية للمواطنة على إثر انفجار الثورة السورية في نهاية عام 2011 ، وفي دمشق”(40)، قبل أن ينتقل بها إلى بيروت للاستمرار في نشاطها. وقد أتاح له هذا الانتقال للرابطة أن تكون أكثر فاعلية في تنويع نشاطاتها حول المواطنة وكل ما يرتبط بها في فضاء دولة ديمقراطية من الندوات والورشات التدريبية التفاعلية إلى اللقاءات والكتابات والحوارات. وكان أهم منشور يدور حول المفهوم تحديدًا كتاب “دليل المواطنة” الذي صدر في طبعته الأولى عام 2016 وتناول العناصر الرئيسة التي ينطوي عليها مفهومه بعد سردٍ موجزٍ لتاريخها من حيث ارتباط نشوئها “بعملية استقرار المجتمع البشري (…) وصولًا إلى “المرحلة الحضارية التي عرفت نشوء المدينة كفضاء  يفرض العيش فيه التعايش بين أناس لا يتفقون بالضرورة في الطباع والسلوكيات والمصالح” خلافًا لما جرت عليه العادة في اعتبار المواطنة وليدة المدن الإغريقية(41)، وتقديم مختلف التعريفات التي عرفها مفهومها للتأكيد على أنها سيرورة وممارسة وصولًا إلى تعريف المواطنة الذي سبقت الإشارة إليه في المدخل، وتفصيل علاقة المواطن بالدولة على صعد حقوق الإنسان والديمقراطية والتعليم والعلمانية، ثم على صعد علاقة المواطن والمجتمع في المجتمع المدني والثقافة والجندر، وأخيرًا على صعيد المواطن والفضاء المشترك كما يتضح في السهر على التنمية المستدامة التي تعنى بوجه خاص بالتصدي للشرور الثلاثة: المخاطر(البعد البيئي)، والمآسي (ازدياد الفقر والنمو غير المتساوي والنقص في الماء والغذاء)، والمثالب (الخاصة بالبعد الاقتصادي للتنمية المستدامة).

   وثانيها موقع الجمهورية، وهو موقع أسس بعد أشهر من تأسيس الرابطة، في أوائل عام 2012، موقع الجمهورية الذي أسسته مجموعة من المثقفين والكتاب السوريين من بينهم ياسين الحاج صالح وياسين سويحة وفتح صفحاته منذئذ لطيف واسع من الكاتبات والكتاب الشباب يسجلون أراءهم وشهاداتهم وطروحاتهم في مختلف ميادين القضية السورية، واحتلت المواطنة كمفهوم مباشر أو كقيم أو مقومات شأنها شأن القضايا السياسية والفكرية والثقافية الأخرى مكانها الطبيعي في جملة المقالات المنشورة خلال السنوات العشر التالية على إنشاء الموقع. وقد بات هذا الموقع يؤلف مرجعًا شديد الأهمية لكل الباحثين في الحدث السوري وهمومه وقضاياه خلال السنوات العشر الماضية.

   وثالث هذه المواقع، كان مركز حرمون للدراسات المعاصرة الذي تأسس عام 2016 والذي كان محور اهتمامه الأساس القضية السورية على مختلف الصعد السياسية والفكرية والثقافية وبمختلف الوسائل العديدة التي تمثلت في السنوات الأولى في منابر مختلفة ومختصة وفي الدراسات المعمقة فضلًا على المقالات السياسية والفكرية والثقافية، ونشر الكتب الموضوعة والمترجمة حول مختلف موضوعات الحدث السوري؛ ومنذ عام 2019، اغتنى نشاطه بالندوات الأسبوعية التي تشارك فيها نخبة من المفكرين والسياسيين والناشطين في مختلف الميادين من سورية والبلدان العربية. ولقد أولى هذا المركز في منشوراته على موقعه الالكتروني وفي ندواته اهتمامًا واضحًا ببحث ومناقشة موضوع المواطنة ومقوماتها وقيمها وكل ما يرتبط بها مفهومًا وممارسة على صعد الدستور والقوانين والحياة اليومية. إذ احتل مفهوم المواطنة والمواطنة المتساوية خلال السنوات الخمس الماضية ما لا يقل عن أربعمائة مادة تتناوله بين دراسة أو مقال أو ندوة، سواء كمفهوم نظري رسخته وثائق حقوق الإنسان الدولية، أو في علاقته مع التراث العربي/الإسلامي أو في ضرورته القصوى في سوريا الجديدة.. وهو ما يعكس الوعي العميق لدى مختلف المثقفين السوريين الذين أسهموا في كتابة هذه المواد بما تفرضه عليهم باستمرار ضرورة توضيح هذا الحق الأساس الذي حرم منه السوريون عمليًا طوال ما لا يقل عن خمسين عامًا.

    * المثقفون السوريون ومفهوم المواطنة:

   احتل موضوع مفهوم المواطنة مع مفهوم الديمقراطية خلال السنوات العشر الماضية بوجه خاص المقام الأول بين المفاهيم السياسية التي حفلت بها الكتب الجماعية الموضوعة أو المترجمة، التي نشرت هذه أو تلك سواء مراكز دراسات كالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومركز دراسات الوحدة العربية أو منتدى البدائل العربي للدراسات، وسواها، أو تلك التي نشرتها دور نشر خاصة ولا سيما في لبنان ومصر.

   على أن مشاركة الكتاب السوريين في الاهتمام بمفهوم المواطنة عبر شروطه ومقوماته وارتباطه بالمفاهيم الأخرى للدولة الحديثة ولاسيما الديمقراطية، وفي القيم المنبثقة عنه كانت قد بدأت بالظهور منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي. وقد اختصها عدد من المثقفين السوريين فرادى بكتاباتهم أو بترجماتهم أو بمشاركاتهم في نشاطات جماعية وخصوصًا في الندوات والحوارات التي نظمت حول مفهوم المواطنة أو ما يرتبط به. سبقت الإشارة إلى حسان عباس وجهوده التي كرَّسها للمواطنة وثقافتها وقيمها في كتاباته وفي نشاطاته التي لم تقف عند كتاب أو مجموعة مقالات بل تجاوزت ذلك إلى الجوهري أيضًا: تأسيس رابطة للمواطنة تستهدف بمختلف الوسائل ترسيخ مفهومها في معانيه ودلالاته الحديثة ونشر ثقافتها وقيمها بين مواطنيه، كما سبقت الإشارة.  وفي الفترة نفسها أيضا نشر هيثم مناع كتابًا خصصه حصرًا للمواطنة حاول فيه رصد إشكالية مفهومها في التاريخين العربي والإسلامي وطبيعتها في الإسلام، والتي رأى أكثر من مستشرق ان مفهومها غائب في التاريخين المذكورين. لكن هذا المفهوم، مع انطلاق ثورات الربيع العربي وما عبرت عنه من تطلعات إلى الحرية والديمقراطية والكرامة، أخذ يفرض نفسه بصورة أو بأخرى على برامج الأحزاب والتشكيلات السياسية الجديدة وكذلك على المثقفين والمفكرين الذين شرعوا بالاهتمام به ومعالجته سواء في مقالات وأبحاث تخصص لعرضه وتفصيل شروطه وعناصره المقوِّمة وقيَمِه، أو لتقديمه في مختلف  وجوه فهمه أو تطبيقاته في التاريخ الحديث والمعاصر، بما في ذلك البحث عن أصول له في التراث السياسي العربي والإسلامي. كانت هذه الكتابات تتوزع في اتجاهات عدة: اتجاه محاولة تأصيل مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية انطلاقًا من وثيقة المدينة في القرن السابع الميلادي(42)، وآخر، محاولة التوفيق بين مفهوم المواطنة الحديث  ومفهومها في الشريعة الإسلامية، وثالث يسير في الاتجاه الحداثي فيقوم بتعريب المفهوم ومقوماته بوصفه مفهومًا حديثًا لا يمكن فصله عن الديمقراطية والشرعة الدولية لحقوق الإنسان وفي مقدمتها “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” كما أقرته منظمة الأمم المتحدة عام 1948. وقد برز ذلك واضحًا في: البرنامج السياسي العام لحزب الجمهورية الذي سبقت الإشارة بالتفصيل إلى رؤيته(43). على أن الاتجاه الثاني حظي في كتابات المفكرين الاجتماعيين والسياسيين السوريين فضلًا على مئات المقالات بكتابين خصصهما مؤلفهما لؤي صافي للمواطنة، نشر الأول منهما تحت عنوان “الحرية والمواطنة والإسلام السياسي في عام 2012 ، في حين نشر الثاني بعد ثماني سنوات تحت عنوان “دولة المواطنة”، في عام 2020، ويعكسان كلاهما عملًا فكريًا جديرًا بالدراسة والتحليل لابد من التنويه بهما في سياق هذه الدراسة.

   وضع لؤي صافي كتابه الأول حول “الحرية والمواطنة والإسلام السياسي” في فترة بدا له أن الإسلام السياسي يحتل فيها صدارة المشهد السياسي على أساس أن “الانتفاضات العارمة التي تمخض عنها الربيع العربي” أبرزت “الرصيد الشعبي الكبير الذي تتمتع به الحركات الإسلامية” سواء في تونس كقوة سياسة رئيسة أو بروز جماعة الإخوان المسلمين والحركة السلفية في مصر بوصفهما “تمتلكان دعمًا جماهيريًا واسعًا” وصولًا إلى اليمن وسورية “حيث تؤدي الحركات الشعبية ذات العمق الإسلامي مهمة رئيسة في الحراك الثوري الشبابي الذي يقود الحراك الديمقراطي هناك”، كما كتب في مقدمة الكتاب. لكنه إذ يشير إلى أن التيارات الإسلامية المختلفة التي تمثل الإسلام السياسي  لا تعكس قراءة أحادية لعلاقة الإسلام بالواقع العملي للمجتمعات، يوضح بصورة غير مباشرة تبنيه للتيارات التي “تدعو (…) إلى تطوير مؤسسات حديثة لتحقيق الغرض نفسه [ربط قيم الإسلام بواقع المسلمين] والاستفادة من التجارب الإنسانية لتطوير مجتمع سياسي تتمايز فيه دائرة الحياة المشتركة بين مكونات المجتمع الدينية والإثنية والفكرية عن دائرة الحياة الخاصة التي يمكن أن تخضع لتفسير ديني أو فكري يتناسب مع الخيارات الدينية والعقدية للأفراد”(44). ولأنه لا يمكن في نظره تجاهل دور الإسلام أو تجاوزه في التحولات “التي تمر بها المنطقة العربية”، فإنه يكرس كتابه لمقاربة الحرية والمواطنة وفق الإطار المعياري الذي يشكل القاعدة التي تقوم عليها مفاهيمهما في الخطاب الإسلامي وربط هذه المفاهيم بأطر المجتمع الحديث وعلاقاته السياسية والاجتماعية والدينية، كما يقول الكاتب، من أجل تحقيق ما بات في نظره ضرورة تاريخية ومطلبًا شعبيًا، أي “الخيار الديمقراطي الذي يقوم على مبدأ تساوي المواطنين على اختلاف انتماءاتهم السياسية ومواقعهم الاجتماعية وعقائدهم الدينية في الحقوق والواجبات الوطنية، وعلى مبدأي حق المواطن في المشاركة في صنع القرار السياسي ومسؤولية القيادة السياسية عن قراراتها وأفعالها أمام الشعب”(45). وهذه الضرورة التاريخية والمطلب الشعبي هي التي يعمل لؤي صافي على تأصيلها في قراءة معمقة للإسلام دينًا وحضارة مختلفة عن تلك السائدة اليوم لدى مختلف تيارات الإسلام السياسي ولاسيما تلك التي تقدمها أطيافها المتشددة والشعبوية والسلفية.

   أما كتاب لؤي الصافي الموسوم بـ “دولة المواطنة، الأسس المجتمعية الضرورية لقيام عقد اجتماعي وحياة دستورية” والذي نشر عام 2020، فيأتي بعد العديد من التغيرات التي طرأت على إثر ثورات الربيع العربي ومشاركة المؤلف “في العمل السياسي لدعم ثورات الربيع العربي” و”الحوارات العديدة التي شارك بها مع الناشطين السياسيين والحقوقيين حول الشروط الموضوعية لقيام دولة تحترم المواطن وتكرس قيم المواطنة”(46). كتاب شديد الأهمية يبرهن على مدى الأولوية التي اكتسبها مفهوم المواطنة وقيمها وضرورة تحقيقها لدى طيف واسع من السوريين. يستعيد الكاتب في هذا الكتاب عددًا من طروحاته النظرية في ضوء مشروع المواطنة والعدالة الاجتماعية الذي أسهم فيه طويلًا مع فريق من أصدقائه وساعده في محاولته في هذا الكتاب رسم معالم دولة المواطنة المنشودة في سورية وتصوره حول منهجيات الوصول إليها.

     ح.  في ميدان التربية والتعليم

   إذا كانت المواطنة هي، في أبسط تعريفاتها، الرابطة التي تصل بين المواطن وبين الدولة من ناحية والمجتمع من ناحية أخرى، وما تقتضيه هذه الرابطة من حقوق أطرافها وواجباتهم ولاسيما في مجالات المشاركة والمساواة والانتماء مثلما تفترض ممارستها نظرًا وفعلًا، دستورًا وتشريعات تقنِّن مواد الدستور وتسهِّل سبل احترامها في مجالات تطبيقها، وأن تجري في نظامٍ ديمقراطيٍّ حقيقيٍّ راسخ الجذور، تسوده قيم مشتركة على الصعيد الاجتماعي راسخة في وعي المواطنين بمضامينها ودلالاتها رسوخًا يتجلى في سلوكهم اليومي على الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية، فمن الواضح من التوصيفات السابقة لواقع مفهوم المواطنة في سورية خلال القرن الماضي يمكن أن تحيل إلى اتجاه على صعيد التربية والتعليم في فهم المواطنة ودلالاتها وقيمها شديد البعد عن مفهومها كمبدأ أساس في دولة ومجتمع ديمقراطيين، وأكثر التصاقًا بمعايير الدولة الشمولية سواء في مفهومها القومي أو في مفهومها السياسي/الاجتماعي.

   وعلى غرار الاهتمام البحثي النادر بموضوع المواطنة في عالمنا العربي في مختلف الميادين بما في ذلك ضمن الإطار التربوي خلال النصف الثاني من القرن الماضي، لم تكن كتب التعليم المدرسي المخصصة لموضوع المواطنة في مختلف البلدان العربية تحظى باهتمام الباحثين قبل عشرين عامًا، لا بل إن هذا الاهتمام صار أكثر وضوحًا وعلى نحو ملحوظ  خلال السنوات العشر الأخيرة. هكذا نشرت دراسات عديدة نظرية وميدانية تتناول الطريقة التي كان موضوع المواطنة يقدم لأجيال التلامذة والطلبة في المدارس في فلسطين وتونس والأردن ومصر والكويت والسعودية وعُمان وسورية.

   دراستان في سورية خصصتا في إطار هذا الاهتمام للمقررات التعليمية: الأولى دراسة زينب زيود التي نشرت في مجلة اتحاد الجامعات العربية للتربية وعلم النفس في عام 2011 تحت عنوان: “مفهومات المواطنة في كتب التربية القومية الاشتراكية” للمرحلة الثانوية في سورية(47)؛ والثانية هي دراسة محمد نور النمر التي صدرت في كتاب عام 2018 تحت عنوان: “المواطنة في المناهج الدراسية السورية”، تحت إشراف يوسف سلامة، عن مركز حرمون للدراسات المعاصرة.

   الأولى هي دراسة زينب زيود، التي خصصتها لـ”مفهوم المواطنة في كتب التربية القومية”، التي، على الرغم من عرضها عددًا من الدراسات السابقة عليها حول المواطنة في الكتب الدراسية في عدد من البلدان الأجنبية والعربية وإشارتها إلى مراجعة العديد من الأبحاث التي كتبت حول المواطنة ودساتير الدول المختلفة قديمها وحديثها،  تبدو مع ذلك ضبابية في فهمها لمفهوم المواطنة حين تحصره في الانتماء إلى “الوطن” متجاهلة معناه اللغوي قبل معناه القانوني والسياسي والاجتماعي. إذ أن أول ما يسترعي الانتباه في دراستها هذه هي الكيفية التي قاربت بها مفهوم المواطنة بقدر وافٍ من تجاهل المعاني الدقيقة لهذا المفهوم التي حفلت بها لا الوثائق الدولية والأممية الخاصة بحقوق الإنسان فحسب، بل مئات الدراسات المنشورة بمختلف لغات الدول الديمقراطية في عالمنا المعاصر. فبدلًا من الحديث عن مبادئ المواطنة أو عناصرها الرئيسة، لجأت إلى الحديث عن مفهومها بصيغة الجمع، مفاهيم، أو “مفهومات”، مع الحديث عما أطلقت عليه “مكونات المواطنة التي يجب أن تتجذر في الفرد ليكون مواطنًا صالحًا”(48)، دون التمييز بين “المكونات” أو بالأحرى المبادئ التي اقتصرت في اعدادها لها على الانتماء والحقوق والواجبات والمشاركة المجتمعية من ناحية وما أطلقت عليه “القيم الأٍساسية والعامة” التي “تساعد على تنشئة الفرد [كي يصير] مواطنًا صالحًا، (…) عارفًا “حقوقه وواجباته ومدركًا مسؤولياته المرتبطة بدرجة الحرية الممنوحة له“(49). ذلك أنها قامت بتكييف مفهوم المواطنة مع مفهوم أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي  في سورية ومبادئه النظرية، وهو ما يبدو واضحًا في تحديدها مشكلة بحثها قائلة “إن مفهوم المواطنة في سورية يشتمل على مصطلحي المواطنة والقومية (…)  والمواطنة بمفهومها الشامل هي انتماء للوطن الكبير”، وهو انتماء لا ينفي ضرورة “تعريف المواطن العربي السوري بالقطر الذي ينتمي إليه والتزام حقوق هذه المواطنة وواجباتها ومسؤولياتها من دستوره الوطني”. أما نتائج البحث فقد كانت في ضبابيتها على غرار ضبابية فهم مفهوم المواطنة المشار إليه في بداية البحث، كما لو أن الدراسة تسير على هدي الطريقة التي استخدمت في المقررات الدراسية موضوع هذه الدراسة، والتي يتضح منهجها من خلال كلمات وتعابير مثل: “المواطن الصالح، التنشئة على، مبادئ يجب أن تتجذر، درجة الحرية الممنوحة للمواطن”، فضلًا على اضطراب المصطلحات المستخدمة المرتبطة بالمواطنة المشار إليها آنفًا.

   لذلك تكتسب الدراسة الثانية أهميتها الأساس من أنها تنطلق في تحليل مضمون المناهج الدراسية السورية المتبعة في مقررات كتب الدراسات الاجتماعية خلال مرحلة التعليم الأساسي، أي في صفوف المدرسة الابتدائية اعتبارًا من الصف الثالث وحتى نهاية الصف السادس، من معيار واضح ودقيق في تسميته وفي تعريفه وفي أصوله هو مفهوم المواطنة ممثلًا في مبادئها الثمانية(50) المستخلصة خصوصًا من الوثائق الأممية الخاصة بحقوق الإنسان والمعتمدة في مختلف دساتير وقوانين دول الديمقراطيات الحديثة غربًا وشرقًا، ومدى توافق أو اختلاف مضمون المقررات الدراسية المدروسة مع هذه المعايير التي يعلن مؤلفوها انطلاقهم منها أو اعتمادهم لها وكذلك سبل المراوغة المتبعة في التعامل معها، وهو ما يلتقي مع منطلق وغرض الدراسة الحالية وغرضها.

   أما أسئلة هذا البحث فقد كانت تتناول القيم الرئيسة للمواطنة التي حضرت في كتب الدراسات الاجتماعية في مرحلة التعليم الأساسي وكذلك قيم المواطنة الفرعية الحاضرة أو الغائبة فيها، وعن الكيفية التي تمَّ التعبير بها عن هذه القيم، وأخيرًا تحديد طبيعة قيم المواطنة الرئيسة والفرعية وتصنيفها بين قيم إيجابية وسلبية(51). قادت هذه الأسئلة الكاتب إلى عرض مختلف مبادئ المواطنة الثمانية وقيمها الأساسية الثمانية هي الأخرى والقيم المتفرعة عنها، كي يشرح أسس التحليل التي اعتمدها في تحليل المضامين  القيمية وقواعده، ومختلف المفاهيم الإجرائية التي استخدمها وخصوصًا منها مفهوم المواطنة بوصفه المشاركة الديمقراطية الفاعلة للأفراد في إدارة شؤون حياتهم السياسية والاجتماعية بحرية، والمناهج الدراسية المستخدمة، ومجمل المؤسسات التربوية التي استخدمها النظام الأسدي  كمنظمة طلائع البعث، واتحاد شبيبة الثورة باعتبارهما جزءان أساسيان الى جانب  المدارس من منظومة التعليم الرسمية التي تستهدف “إكساب المتعلم المهارات الحياتية والمعارف العلمية والقيم الخلقية والجمالية والتربية بطريقة محددة الأهداف والوسائل”(52).

   كانت النتائج التي وصلت إليها الدراسة عبر تحليل مضمون مقررات كتب الدراسات الاجتماعية في مرحلة التعليم الأساسي بحثًا عن الإجابات فيها عن هذه الأسئلة تقدم صورة شديدة الدقة والوضوح حول حضور أو ضعف حضور أو غياب قيم المواطنة الرئيسة أو الفرعية في المنظومة التعليمية الأسدية. فمن قيم المواطنة الرئيسة الثمانية كان الأقل حضورًا منها في هذه الكتب القيم المدنية والواجبات والقيم الخلقية والإنسانية وقيم  الحرية والانتماء الإنساني، وأكثرها حضورًا قيم الوطنية وأقل منها قيم الحقوق؛ أما حضور أو ضعف حضور أو غياب القيم الفرعية الخاصة بكل من القيم الرئيسة فقد انتهى التحليل إلى أن القيم ذات الحضور القوي أو المتوسط في مجموعة القيم الوطنية هي قيم الانتماء الوطني والهوية الوطنية وتحديد الواجبات، وفي مجموعة قيم الحقوق الحق في بيئة سليمة والرعاية الصحية وحق التعلم و حق التربية، وفي مجموعة القيم المدنية قيمة احترام القوانين والديمقراطية وقبول الاختلاف، وفي مجموعة قيم الواجبات المحافظة على الممتلكات العامة وتحمل المسؤولية والمشاركة في قضايا المجتمع، وفي مجموعة القيم الخلقية التعاون والتضامن، وفي مجموعة قيم الإنسانية الاعتراف بالآخر وحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين، وفي مجموعة قيم الحرية حرية الانتخاب والحرية المدنية، وفي مجموعة قيم الانتماء الإنساني احترام حق الآخر وإدارة الصراعات بطريقة سلمية والاهتمام بقضايا البيئة. أما القيم الفرعية التي كانت غائبة كليًا أو ذات حضور ضعيف في مجموعة القيم الوطنية فهي: حماية الحقوق وممارستها واحترام التنوع الثقافي واحترام التنوع اللغوي والجنسية والتمثيل السياسي والتداول السلمي والسلم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، وفي مجموعة قيم الحقوق الحق في المعرفة وفي الانتماء إلى الجمعيات والحماية من الاستغلال الجنسي ومن الحروب والحق في حرية الرأي وفي الحياة والحماية من الاستغلال الاقتصادي وفي الرعاية السرية والحماية من الإساءة، وفي مجموعة القيم المدنية المشاركة في الحكم والعيش المشترك، وفي مجموعة قيم الواجبات حماية الفرد لحريته وأداء الضرائب واحترام الأماكن المقدسة واحترام الآخرين وحماية حقوق الأخرين، وفي مجموعة القيم الخلقية التسامح والكرامة، وفي مجموعة قيم الإنسانية التواصل، وفي مجموعة قيم الحرية حرية التنظيم النقابي وحرية الاحتجاج والحرية السياسية وحرية التنظيم السياسي وحرية التظاهر، وفي مجموعة قيم الانتماء الإنساني تحقيق السلام الدولي(53).

   تبين نتائج هذه الدراسة الموجزة هنا في مجملها أن قيم المواطنة الرئيسة أو الفرعية كانت شبه غائبة لصالح حضور القيمة الأساس في كتب الدراسات الاجتماعية في المدرسة الابتدائية أو مرحلة التعليم الأساسي، أي قيم الوطنية والانتماء الوطني الذي يعني، كما يقول المؤلف، “في تعريف كتاب الدراسات الاجتماعية هو الانتماء إلى الوطن وقائد الوطن”(54). وهو ما كان ينسجم مع خطة النظام الأسدي في تأطير التلامذة منذ نعومة أظفارهم كمنظمة طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة.

   واضح مما سبق إلى أي حدٍّ يمكن أن تختلف منهجًا وتحليلًا ونتائجًا مقاربة مسألة المواطنة في دراستين إحداهما كتبت من قبل باحثة سورية لا تزال على رأس عملها في السلك التعليمي الجامعي داخل سورية، والثانية كتبت من قبل باحث سوري يعيش خارج وطنه وأشرف عليها أستاذ جامعي فلسطيني سوري يقيم هو الآخر خارج بلده. إذ ما كان بوسع كاتبة الدراسة الأولى حتى لو أرادت أن تنطلق من قيم المواطنة الرئيسة التي انطلقت منها الدراسة الثانية. ومع ذلك، فكلا الدراستين تقولان الكارثة التي عاشها السوريون خلال أربعين عامًا حين حرموا من أدنى معاني المواطنة وحقوقها.

الهوامش:

 (6). صحيح أن اعتماد دستور 1930، أول دستور لسورية سايكس بيكو المحتلة، قد ارتبط بفرض المادة 116 من قبل المندوب السامي الفرنسي التي عطَّلت عمليًّا كل ما جاء فيه، وأن العمل به عُلق بعد جدال طويل حول تنفيذه في 1932، إلا أنه اعتُمد بعد حذف هذه المادة من قبل حكومة سورية المستقلة وبقي يعمل بموجبه حتى وضع دستور 1950 واعتماده. انظر: يحيى سليمان القسام، موسوعة سورية، المجلد الثالث، الجزء الثاني، السلطة التشريعية، الدساتير السورية، القانون الأسا ?سي للدول المشمولة بالانتداب الفرنسي، دمشق 2007 ، ص 159.

(7). انظر: يحي سليمان القسام، الموسوعة السورية، المجلد الثالث، الجزء الثاني، قوانين الانتخابات وتعديلاتها، ص 277.

(8). انظر: التطورات الدستورية في سورية بعد الاستقلال، طالب عبد الجبار الدغيم، في: الدستور السوري: قراءات وخيارات، مركز حرمون ودار ميسلون، غازي عنتاب 2018، ص 58.

(9). الموسوعة السورية، مرجع سابق، مواد الدستور المشار إليه 25، 26، 27، 38، 39. ص 240/ 241.

(10). المرجع السابق، دستور 1971، المادة 38. ص 241.

(11). انظر: بدرالدين عرودكي، الثقافة في سورية من الدمار إلى البناء، محاولة في تشخيص الدمار الثقافي في سورية ( 1963- 2010)، مركز حرمون للدراسات والنشر، خصوصًا حول مداخلتي ميشيل كيلو وممدوح عدوان عام 1979، ص 21.

(12). انظر دستور سوريا (الجمهورية العربية السورية) الصادر عام 2012 ، الرابط: https://bit.ly/3NKZ3sl

(13). انظر: نادر جبلي، وفقًا للقانون، موقع جيرون، 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016. الرابط: https://bit.ly/3J6s1zA

(14). المرجع السابق، نادر جبلي، وفقًا للقانون.

(15). حنا، عبد الله، صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية في القرن العشرين وأجوائها الاجتماعية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2018، ص 110.111.

(16). الشهبندر، عبد الرحمن، القضايا الاجتماعية الكبرى في العالم العربي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2019، ص 178. صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى بالقاهرة عام 1936، وكان ما كتب فيه يتناول أوضاع المجتمعات العربية في الثلث الأول من القرن العشرين التي كان قسم منها خاضعًا للاستعمار يناضل ضد الاحتلال وقسم آخر مستقل يبحث عن أصلح أشكال الحكم له. انظر أيضًا: حنا، عبد الله، صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية في القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2018، ص 107.

(17). الأرمنازي، نجيب، محاضرات عن سوريا من الاحتلال حتى الجلاء، معهد الدراسات العربية العالية، جامعة الدول العربية، 1953، ص 35.

(18). انظر برنامج الحزب الوطني في: الأحزاب السياسية في سوريا، منشورات دار الرواد، دمشق 1954، ص 194. 196: «المساواة بين جميع السوريين واشتراكهم بحسب قابلياتهم وكفاءاتهم وصلاحهم في خدمة الكيان العام وتحقيق مصالحهم العامة؛ (…) يستمد الحكم سلطانه وصلاحياته من إرادة الشعب التي يعبر عنها بالانتخاب الحر المستند إلى حرية الرأي والاجتماع والنشر وتشكيل الهيئات المنظمة وغير ذلك من الحريات الأساسية العامة؛ (…) يعمل الحزب على ضمانة استقلال القضاء… وكفالة حريات الناس ومصالحهم المشروعة» وص 202: (…) اتخاذ سياسة تجعل المواطن يشعر شعورًا مكينًا بأنه جزء من كل، ما يجعله عميق الإحساس بحقه ومسؤوليته في المساهمة بكل ما يعود لخير أمته..». وحول مبادئ حزب الشعب الذي جاء في برنامجه الذي يقوم على مبادئ الديمقراطية، بما يفيد أن «الشعب هو مصدر كل سلطة؛ والحرية بأنواعها لكل مواطن؛ والمساواة بين المواطنين دون أي تفريق بينهم بسبب ثروة أو جاه أو دين أو مذهب؛ والتسامح بين المواطنين؛ ومبدأ العدالة الاجتماعية؛ والتوفيق بين السلطات»، انظر: صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية، مرجع سبق ذكره، ص 138.

(19). ويمكن عدّه المؤتمر الثاني بعد المؤتمر الأول الذي جرى عند تأسيس الحزب في 1924 . انظر حنا، عبد الله، صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية، مرجع سبق ذكره، ص 224.

(20). المرجع السابق، ص 225.

(21). العظم، خالد، مذكرات خالد العظم، الجزء الثالث، الطبعة الثالثة، الدار المتحدة للنشر، بيروت 1973، ص 32 و 45.

(22). الأحزاب السياسية في سوريا، مرجع سبق ذكره، ص 119. 120.

(23). المرجع السابق، ص 245.

(24). انظر: التجمع الوطني الديمقراطي في سورية، البرنامج السياسي. الرابط: https://bit.ly/3iYy7HF

(25). انظر: ربيع دمشق، مركز مالكوم كير  كارنيغي للشرق الأوسط، الرابط: https://bit.ly/3LGln4u

(26). جرى توقيع الإعلان في 16 تشرين أول/ أكتوبر 2005 من قبل تحالف ضمّ التجمع الوطني الديمقراطي في سورية والتحالف الديمقراطي الكردي في سورية ولجان إحياء المجتمع المدني والجبهة الديمقراطية الكردية في سورية وحزب المستقبل واللجنة السورية لحقوق الإنسان وشخصيات مستقلة تضم كلً من النائب المعارض رياض سيف وميشيل كيلو والمفكر الإسلامي جودت سعيد وعبد الرزاق عيد وسمير النشار وفداء أكرم حوراني وعادل زكار وعبد الكريم الضحاك والمحامي هيثم المالح إضافة إلى نايف قيسية. وانضمت المنظمة الآثورية الديمقراطية إلى الموقعين على وثيقة إعلان دمشق بموجب البيان المشترك بين المنظمة الآثورية الديمقراطية واللجنة المؤقتة لإعلان دمشق بتاريخ 7 كانون الثاني/ يناير 2006. وقد أعلنت جماعة الإخوان المسلمين في سورية برئاسة صدر الدين البيانوني التي تتخذ من لندن مقرًا لها «تأييدها الكامل لإعلان دمشق للتغيير الديمقراطي تمهيدًا لانعقاد المؤتمر الوطني الشامل ومدخلً للتغيير، لكنها كانت أول من غادر التحالف في 2006 بعد أن انضمت إلى جبهة الخلاص الوطني بزعامة عبد الحليم خدام، مثلما غادرته أيضًا جماعات سياسية أخرى ولا سيما مختلف الأحزاب الكردية التي وقعت الإعلان عند صدوره». انظر: مركز مالكوم كير  كارنيغي للشرق الأوسط، الرابط: https://bit.ly/3LJ6MWl

(27). المطلق، خالد، أهم الأحزاب والهيئات والتيارات التي ظهرت في الثورة السورية، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، قضايا، 20 كانون الثاني/ يناير 2021 . انظر: https://bit.ly/3tH9VzC

(28). انظر وثائق مواطنة، عهد وطني: سوريا وطن لجميع أبنائها. انظر: https://bit.ly/3u6b3gx

(29). وهي: وقف الخيار العسكري والأمني والإفراج عن المعتقلين السياسيين كافة؛ محاسبة المسؤولين عن القتل وإطلاق النار على المعتقلين؛ تشكيل لجنة تحقيق مستقلة؛ رفع حالة الطوارئ والأحكام العرفية في البلد؛ الاعتراف بحق التظاهر السلمي؛ إلغاء المادة الثامنة من الدستور. انظر: المرجع السابق.

(30). تفرض أهمية النص المخصص لحقوق الإنسان والمواطن في البرنامج السياسي العام لحزب الجمهورية تثبيته هنا مع الإحالة إلى البرنامج المنشور في موقع الحزب، انظر الرابط: https://rpsy.org/ . «2. حقوق الإنسان والمواطن: الوطنية السورية هي انتماء إلى وطن هو (سورية)، بحدوده الرسمية، وحضارته، تاريخه، قيمه ومبادئه، وعليه تشكل هذه الوطنية نسيجًا روحيًا وثقافيًا يستوعب جميع السوريين، من خلال تفاعل وتداخل اجتماعي وسياسي واقتصادي. الوطنية هي رابطتنا الأولى، والروابط الأخرى كلها تحت رعاية هذه الرابطة الجوهرية، وهي مدخلنا إلى العالم، ومدخلنا إلى علاقتنا ببعضنا، ومدخلنا إلى مواجهة الأخطار التي تهدد مصيرنا. الوطنية السورية هي جسر للتواصل بين أبناء الوطن، وميدان للتفاعل الحي المؤثر مع الخارج، وهي ليست نقيضًا أو بديلً للانتماء القومي أو الديني أو الطائفي، ولكنها مقدمة عل غيرها، لأنها تشكل المظلة التي تضمن حماية التنوع الديني والمذهبي والإثني. الوطنية بهذا المعنى منظومة أفكار ومبادئ يجب أن تحرر في معانيها من الانتماء التاريخي الجبري والانتماء الاسمي واللغوي الضيق، ويجب تحويلها إلى التزام، وفلسفة، وإلى حركة تتلاحم مع مصير الوطن بأبعاده كلها. وهنا تأتي علاقة أجهزة الدولة بالمواطنين التي ينبغي أن تكون مبنيّة على أساس المواطنة أيضًا، فلا فرق بين سوري وسوري آخر على أساس الجنس أو الدين أو العرق أو أي شيء آخر. وبغرض تدعيم هذه القيمة يؤكد حزبنا:  ضرورة صوغ وثيقة تختص بالتعريف بالمواطنة وحقوق المواطن الأساسية التي يكفلها الدستور والقانون، وتستند إلى مبادئ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وقيمها. وتشمل هذه الوثيقة التعريف الكامل بهذه الحقوق، ويمكن أن تستخدم للتوعية والتحفيز السياسي للمواطن بحيث يستطيع التعرف على حقوقه والسعي لممارستها. وينبغي تأكيد أهمية مشاركة فئات المجتمع السوري في صوغ هذا التعريف وهذه الوثيقة.  ضرورة ترجمة هذه الوثيقة إلى واقع ملموس وتحويلها إلى قانون ولوائح ملزمة لممارسة الأفراد والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية.  إن احترام حقوق الإنسان هو من أهم مبادئ المواطنة، ولذا يرى الحزب ضرورة إلغاء جميع التشريعات المميزة لفئة من دون أخرى أو المخالفة لمواثيق حقوق الإنسان بشكل عام. والعمل من أجل انضمام سورية للمواثيق والاتفاقات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان التي لم تنضم إليها بعد، ودعم نشاط الهيئات الحقوقية والجمعيات المعنية بحقوق الإنسان في نشر ثقافة حقوق الإنسان وفي الدفاع عن حقوق وحريات المواطن السوري.  ضرورة تحديث التشريعات والقوانين كافة ومراجعتها بغرض تحقيق الاتساق مع مفهومات المواطنة ومبادئ حقوق الإنسان.  إن تحديث البنية الثقافية أمر حتمي وضروري لترسيخ قيم المواطنة. ومن ذلك مراجعة مناهج التعليم لتحمل في مضمونها تلك القيم، إضافة إلى توعية المواطنين جميعهم بالحقوق والواجبات وقبول الاختلاف وعدم التمييز على أي أساس. إن دعم التعددية الفكرية والسياسية واحترام الرأي والرأي الآخر واحترام الاختلاف هي عناصر أساسية في دعم قيم المواطنة المتساوية».

(31). المشروع السياسي لسورية المستقبل، رؤية جماعة الإخوان المسلمين في سورية، انظر: https://bit.ly/36uzpaE

(32). المرجع السابق، ص 35. 36.

(33). حنا، عبد الله، صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية…، مرجع سابق، ص 365.

(34). تفرض هنا أيضًا أهمية وثيقة «عهد وميثاق » واختلافها الذي يكاد يكون جذريًا مع ما سبقها من وثائق صادرة عن جماعة الإخوان المسلمين، تثبيت نصها الكامل:

«من أجل وطن حر، وحياة حرة كريمة لكل مواطن.. وفي هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ سورية، حيث يولد الفجر من رحم المعاناة والألم، على يد أبناء سورية الأبطال، رجالً ونساءً، شبابًا وأطفالً وشيوخًا، في ثورة وطنية عامة، يشارك فيها شعبنا بكلّ مكوّناته، من أجل السوريين جميعا.. فإننا في جماعة الإخوان المسلمين في سورية، منطلقين من مبادئ ديننا الإسلامي الحنيف، القائمة على الحرية والعدل والتسامح والانفتاح.. نتقدّم بهذا العهد والميثاق، إلى أبناء شعبنا جميعًا، ملتزمين به نصًا وروحًا، عهدًا يصون الحقوق، وميثاقًا يبدد المخاوف، ويبعث على الطمأنينة والثقة والرضا.

يمثل هذا العهد والميثاق رؤية وطنية، وقواسم مشتركة، تتبناها جماعة الإخوان المسلمين في سورية، وتتقدم بها أساسًا لعقد اجتماعيّ جديد، يؤسّس لعلاقة وطنية معاصرة وآمنة، بين مكوّنات المجتمع السوريّ، بكلّ أطيافه الدينية والمذهبية والعرقية، وتياراته الفكرية والسياسية. يلتزم الإخوان المسلمون بالعمل على أن تكون سورية المستقبل:

1 – دولة مدنية حديثة، تقوم على دستور مدنيّ، منبثق عن إرادة أبناء الشعب السوريّ، قائم على توافقية وطنية، تضعه جمعية تأسيسية منتخَبة انتخابًا حرًا نزيها، يحمي الحقوقَ الأساسية للأفراد والجماعات، من أيّ تعسّفٍ أو تجاوز، ويضمن التمثيلَ العادل لكلّ مكوّنات المجتمع. 2 – دولة ديمقراطية تعددية تداولية، وفق أرقى ما وصل إليه الفكر الإنسانيّ الحديث، ذات نظام حكم جمهوريّ نيابيّ، يختار فيها الشعب من يمثله ومن يحكمه، عبر صناديق الاقتراع، في انتخاباتٍ حرة نزيهة شفافة. 3 – دولة مواطنة ومساواة، يتساوى فيها المواطنون جميعًا، على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم، تقوم على مبدأ المواطنة التي هي مناط الحقوق والواجبات، يحقّ لأيّ مواطنٍ فيها الوصول إلى أعلى المناصب، استنادًا إلى قاعدتي الانتخاب أو الكفاءة. كما يتساوى فيها الرجالُ والنساء، في الكرامة الإنسانية، والأهلية، وتتمتع فيها المرأة بحقوقها الكاملة. 4 – دولة تلتزم بحقوق الإنسان- كما أقرتها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية- من الكرامة والمساواة، وحرية التفكير والتعبير، وحرية الاعتقاد والعبادة، وحرية الإعلام، والمشاركة السياسية، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، وتوفير الاحتياجات الأساسية للعيش الكريم. لا يضامُ فيها مواطن في عقيدته ولا في عبادته، ولا يضيّقُ عليه في خاصّ أو عامّ من أمره.. دولة ترفضُ التمييز، وتمنعُ التعذيبَ وتجرّمه. 5 – دولة تقوم على الحوار والمشاركة، لا الاستئثار والإقصاء والمغالبة، يتشاركُ جميع أبنائها على قدم المساواة، في بنائها وحمايتها، والتمتّع بثروتها وخيراتها، ويلتزمون باحترام حقوق سائر مكوناتها العرقية والدينية والمذهبية، وخصوصية هذه المكوّنات، بكل أبعادها الحضارية والثقافية والاجتماعية، وبحقّ التعبير عن هذه الخصوصية، معتبرين هذا التنوعَ عاملَ إثراء، وامتدادًا لتاريخ طويل من العيش المشترك، في إطار من التسامح الإنسانيّ الكريم. 6 – دولة يكون فيها الشعبُ سيدَ نفسه، وصاحبَ قراره، يختارُ طريقه، ويقرّرُ مستقبله، دون وصاية من حاكم مستبدّ، أو حزب واحد، أو مجموعة متسلطة. 7 – دولة تحترمُ المؤسسات، وتقومُ على فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، يكونُ المسؤولون فيها في خدمة الشعب. وتكونُ صلاحياتُهم وآلياتُ محاسبتهم محدّدةً في الدستور. وتكونُ القواتُ المسلحة وأجهزةُ الأمن فيها لحماية الوطن والشعب، وليس لحماية سلطة أو نظام، ولا تتدخّلُ في التنافس السياسيّ بين الأحزاب والقوى الوطنية. 8 – دولة تنبذُ الإرهابَ وتحاربُه، وتحترمُ العهودَ والمواثيقَ والمعاهداتِ والاتفاقياتِ الدولية، وتكونُ عاملَ أمن واستقرار، في محيطها الإقليميّ والدوليّ. وتقيمُ أفضلَ العلاقات الندّية مع أشقائها، وفي مقدمتهم الجارة لبنان، التي عانى شعبُها- كما عانى الشعب السوريّ- من ويلات نظام الفساد والاستبداد، وتعملُ على تحقيق مصالح شعبها الاستراتيجية، وعلى استرجاع أرضها المحتلة، بكافة الوسائل المشروعة، وتدعمُ الحقوقَ المشروعة للشعب الفلسطينيّ الشقيق. 9 – دولة العدالة وسيادة القانون، لا مكانَ فيها للأحقاد، ولا مجالَ فيها لثأر أو انتقام.. حتى أولئك الذين تلوثت أيديهم بدماء الشعب، من أيّ فئة كانوا، فإنّ من حقهم الحصولَ على محاكمات عادلة، أمامَ القضاء النزيه الحرّ المستقل. 10 – دولة تعاون وألفة ومحبة، بين أبناء الأسرة السورية الكبيرة، في ظلّ مصالحة وطنية شاملة. تسقطُ فيها كلّ الذرائع الزائفة، التي اعتمدها نظامُ الفساد والاستبداد، لتخويف أبناء الوطن الواحد بعضهم من بعض، لإطالة أمَدِ حكمه، وإدامة تحكّمه برقاب الجميع.

هذه هي رؤيتنا وتطلعاتنا لغدنا المنشود، وهذا عهدُنا وميثاقُنا أمامَ الله، وأمامَ شعبنا، وأمامَ الناس أجمعين. رؤية نؤكّدُها اليوم، بعد تاريخٍ حافلٍ في العمل الوطنيّ لعدة عقود، منذُ تأسيس الجماعة، على يد الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله عام 1945. كنا قد عرضنا ملامحَها بوضوح وجلاء، في ميثاق الشرف الوطنيّ عام 2001، وفي مشروعنا السياسيّ عام 2004، وفي الأوراق الرسمية المعتمدة من قِبَل الجماعة، بشأن مختلف القضايا المجتمعية والوطنية. وهذه قلوبُنا مفتوحة، وأيدينا ممدودةٌ إلى جميع إخوتنا وشركائنا في وطننا الحبيب، ليأخذ مكانه اللائقَ بين المجتمعات الإنسانية المتحضّرة. (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إنّ الله شديد العقاب). على موقع: 3tG9uFC/ly.bit//:https

(35). القرضاوي، يوسف، الوطن والمواطنة في ضوء الأصول العقدية والمقاصد الشرعية، بلا تاريخ، ص 1.

(36). المرجع السابق، ص 29. 30.

(37). المرجع السابق، ص 16.

(38). المرجع السابق، ص 3.

(39). انظر: عباس، حسان، المواطنة أساس قيام دولة مدنية ديمقراطية في سوريا، رابط الموقع: https://bit.ly/3Nrk7Ek

(40). كان حسان عباس قد أسس ناديًا ثقافيًا بدمشق منذ عودته إليها في منتصف تسعينيات القرن الماضي وبدأ فيه نشاطه حول المواطنة التي عمل على أن يؤسس لها بعد ذلك  (الرابطة السورية للمواطنة) التي أسسها بدمشق لكنه لم يحصل على موافقة الوزارة المختصة لا على النادي الثقافي من قبل ولا على الرابطة السورية للمواطنة.

(41). دليل المواطنة، ص 13.

(42). انظر ما سبق تحت عنوان: واقع المواطنة في سورية، الفقرة: ث. لدى أحزاب وتيارات الإسلام السياسي، حيث جرى عرض هذا الاتجاه الذي عبَّر عنه يوسف القرضاوي في كتابه الموسوم: القرضاوي، يوسف، الوطن والمواطنة في ضوء الأصول العقدية والمقاصد الشرعية، والمشار إليه سابقًا.

(43). انظر الهامش 27 أعلاه.

(44). صافي، لؤي، الحرية والمواطنة والإسلام السياسي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، دار المجتمع المدني والدستور، بيروت 2012 ، ص 14. 15.

(45). المرجع السابق، ص 33.

(46). صافي، لؤي، دولة المواطنة، الأسس المجتمعية الضرورية لقيام عقد اجتماعي وحياة دستورية، مركز عين الشرق، 2020، ص 11.

(47). مع احتفاظ المجلة بالعنوان الذي وضعته الباحثة لدراستها «مفهومات المواطنة…»، إلا أنها وضعت الإشارة المكررة في أعلى صفحات المجلة التي شغلها المقال بالعنوان معدَّلً: «مفاهيم المواطنة… »! كما يتضح من الإشارة المضافة في نهاية هذا البحث إلى أنه أرسل للنشر في 25 آذار/ مارس 2009 ووفق على نشره في تشرين الأول/ أكتوبر 2009، ونشر في العدد الرابع من مجلة اتحاد الجامعات العربية للتربية وعلم النفس عام 2011.

(48). زينب زيود، مفاهيم المواطنة، المرجع السابق، ص 212.

(49). المرجع السابق، ص 212 .

(50). وهي المشاركة، والمسؤولية، والمساواة، والحرية، والانتماء الإنساني، والانتماء الوطني، والحقوق، والواجبات. انظر: محمد نور النمر، المواطنة في المناهج الدراسية السورية، ص 28 .

(51). محمد نور النمر، مرجع سابق، ص 25.

(52). المرجع السابق، ص 44 – 48.

(53). انظر المرجع السابق، الصفحات: 77  138 ؛ لا تقدم السطور السابقة سوى فكرة شديدة الإيجاز عن العرض الذي يقدمه الكتاب لمختلف الإجابات عن الأسئلة المطروحة مع البيانات الإحصائية ونسب حضور قيم المواطنة الرئيسة أو الفرعية أو غيابها وطرائق التعبير عنها التي يمكن الرجوع إليها من أجل مزيد من المعلومات.

(54). المرجع السابق، ص 83 .

…………………….

يتبع.. (3/3)؛ «2- المواطنة والمواطنة المتساوية في سورية الجديدة»  

ــــــــــــــــــــ

المصدر: حرمون

التعليقات مغلقة.