الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

المواطنة والمواطنة المتساوية في سورية.. الواقع والعقبات والمستقبل(1/3)

د. بدرالدين عرودكي

     إهداء:

     إلى حسان عباس

   قبل رحيلك بأشهر ثلاثة، كنا اتفقنا على أن نتعاون في كتابة هذا البحث معًا. والحق أني كنت أرى أني في الحقيقة سأعمل تحت إشرافك: فأنت من بادر إلى تأسيس الرابطة السورية للمواطنة، وأنت من جعل منها مدرسة يلتقي فيها كل من شاء من شباب سورية الطامحين إلى العيش بكرامة في دولة مدنية ديمقراطية ثاروا من أجل الوصول إليها، وأنت من عمل على دعم كلمة “المواطنة” العربية بكل ما يغنيها مفهومًا على صعيدي النظر والعمل معًا. يشهد على ذلك “دليل المواطنة” الصادر في عام 2016 فضلًا على إسهامات لا تحصى في كل مجال من مجالات نشاط المثقف العضوي الذي كنتَ تجسيدًا له بامتياز.

   وددتُ لو أنك دققتَ هذا البحث، وصححتَ ما يمكن أن يكون فيه من اعوجاج.. ولذلك أراني أقدمه لك على حذر واستحياء شديدين.

…………..

     المحتويات:

الملخص التنفيذي

توطئة

مدخل: المواطنة والمواطنة المتساوية، المفهوم والتطبيق

1ـ واقع المواطنة في سورية، مفهومًا وتطبيقًا  1940ـ2021

أ‌. على الصعيد الدستوري

ب‌. في برامج الأحزاب السياسية الرئيسة ومواقفها

ت‌. لدى الأحزاب والهيئات بين 2011 و2021

ث‌. لدى الأحزاب وتيارات الإسلام السياسي

ج‌. المؤسسات الثقافية وكتابات المثقفين

                * المؤسسات الثقافية ومفهوم المواطنة

                * المثقفون السوريون ومفهوم المواطنة

ح.  في ميدان التربية والتعليم

2ـ المواطنة والمواطنة المتساوية في سورية الجديدة: المعوِّقات، العقبات، الممكنات

أ‌. المواطنة والمواطنة المتساوية

ب‌. معوّقات اعتماد المواطنة المتساوية

ت‌. العقبات الرئيسة أمام اعتماد المواطنة المتساوية

ث‌. ممكنات تحقيق المواطنة المتساوية في سورية المستقبل

المراجع العربية

المراجع الأجنبية

     الملخص التنفيذي:

   تستهدف هذه الدراسة توصيف واقع المواطنة والمواطنة المتساوية في سورية قبل عام 2011 والمكانة التي احتلها مفهومها وشروطها وقيمها اعتبارًا من منتصف تسعينيات القرن الماضي تدريجيًا ثم على نحو واسع مع انطلاق الثورة السورية. ولذلك كان المدخل إليها يستهدف استعراضًا سريعًا لدخول مفهوم المواطنة الحديث عمليًا في الثقافة السياسية العربية، والتعريف بهذا المفهوم شروطًا ومقومات وقيمًا مع تقديم الدراسة بقسميها لتحقيق هدفها.

   يتناول القسم الأول واقع المواطنة في سورية مفهومًا وتطبيقًا بين عامي 1946 و2021 بادئًا باستعراض مفهوم المواطنة في مختلف الدساتير التي توالت على سورية بين 1930 (الذي استمر العمل به حتى عام 1950) وعام 2012، مع بيان تبني حقوق المواطنة الأساسية وتطبيقها في دستور 1950 والنص عليها دستوريًا وعدم تطبيقها عمليًا في الدساتير المتوالية ولاسيما بين عامي 1958 و2012، ولاسيما اعتبارًا من عام 1963، في مجال إصدار القوانين الضرورية لتفعيل مواد الدستور.

   تنتقل الدراسة بعد ذلك إلى بحث الكيفية التي اعتمدت بها برامج الأحزاب الرئيسة المواطنة وحقوقها ومواقفها وكذلك غياب هذه الحقوق كليًا لدى بعضها، سواء الأحزاب التي تأسست قبل الاستقلال واستمرت بعده أو تلك التي تأسست على إثره. وقد أشار هذا الفصل من الدراسة إلى المقاربة الجادة للمواطنة وحقوقها من قبل الأحزاب التي كان ممثلوها يمثلون الأكثرية الساحقة في الجمعية التأسيسية التي وضعت دستور 1950. وكيف أن هذه الجدية أخذت في التلاشي مع حكم الحزب الواحد وهيمنته الفعلية على أحزاب قبلت أن تدرج تحت ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية وأن تنضوي تحت قيادة حزب واحد  نص الدستور على أنه يقود الدولة والمجتمع مكرسًا حكم الاستبداد في شخص الرئيس الذي يرأس الجمهورية والحزب والجيش في آن واحد.

   ولاستكمال الفصل السابق الخاص بالأحزاب، انتقلت الدراسة إلى استعراض برامج عدد من التنظيمات والأحزاب الوطنية الأخرى التي توالى تأسيسها بعد انطلاق الثورة عام 2011 حتى عام 2020 ومواقفها من المواطنة وحقوقها، ولاسيما أن هذا الاهتمام بحقوق المواطنة وقيمها تراوح بين تجاهل كامل لها واعتراف بها صنوًا للديمقراطية وانطلاقًا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

   كان لابدَّ من دراسة واقع مفهوم المواطنة لدى تنظيمات وتيارات الإسلام السياسي ورؤيتها لمفهوم المواطنة كي يكتمل الفصل الخاص بالأحزاب والهيئات السياسية. وقد جرى في هذا القسم عرض لمفهوم المواطنة ومحاولة تأصيله إسلاميًا كما ورد في وثائق جماعة الإخوان المسلمين السورية الثلاث التي صدرت في أعوام 2001 و204 و2012، وكذلك عرض محاولة التأصيل التي قام بها المفكر الإسلامي يوسف القرضاوي في كتابه عن الوطن والمواطنة، مع الإشارة إلى أن هذه المحاولة خلت من حقوق المواطن الأخرى بما تعنيه من الحريات الفردية  والحريات العامة التي يمكن أن تصطدم مع يراه الإسلاميون حقوق الله وحرماته، فضلًا على الموقف من المرأة ومساواتها في الحقوق والواجبات مع الرجل مساواة كاملة.

   أما الفصل الخاص بالثقافة ومؤسساتها فقد تناول في جزئه الأول منجزات المؤسسات الثقافية التي تأسست بعد انفجار الثورة السورية والتي اهتمت بالمواطنة مثل رابطة المواطنة التي أسسها حسان عباس، أو موقع الجمهورية الذي أسسه ياسين الحاج صالح وياسين سويحة،  أو مركز حرمون للدراسات المعاصرة الذي نشر ما لا يقل عن أربعمائة مادة تناولت المواطنة بين دراسة أو مقالة أو ندوة. وتناول في جزئه الثاني مفهوم المواطنة كما قاربه المثقفون السوريون على اختلاف رؤاهم ومواقفهم السياسية أو الأيديولوجية، موضحًا الاتجاهات الثلاثة التي ميزت هذه الكتابات: تأصيل مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية، أو التوفيق بين مفهوم المواطنة الحديث ومفهومها في الشريعة الإسلامية، أو اعتماد المفهوم الحديث للمواطنة انطلاقًا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

   أما الفصل الأخير فقد عرض الكيفية التي عولجت بها مسألة المواطنة في كتب التعليم المدرسية من خلال دراستين، إحداهما كتبت داخل سورية في عام 2011 والثانية كتبت خارج سورية في عام 2018، وكيف أن هاتين الدراستيْن الميدانيتيْن على اختلاف منطلقاتهما بالنسبة لقيم المواطنة، كانتا في نتائجهما مع ذلك تقولان الكارثة التي عاشها السوريون خلال أربعين عامًا حين حرموا على امتدادها من أدنى معاني المواطنة وحقوقها.

   كرس القسم الثاني لدراسة المعوقات التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق المواطنة المتساوية وقيمها  وكذلك العقبات التي لابد من التغلب عليها لاعتماد مفهوم المواطنة الحديث بعيدًا عن محاولات التأصيل أو التلفيق اعتمادًا على نصوص تعود إلى قرون الإسلام الأولى. وقد تناول هذا القسم كيف أن مسألة المواطنة مفهومًا وقيمًا تؤلف مسألة إشكالية لأنها لم تحظ، بعد تغييبها الفعلي مفهومًا وحقوقًا في حياة السوريين طوال أكثر من خمسين عامًا، بقدْرٍ مقبول من إجماع من وقفوا مع الثورة السورية وتبنوا علَمَها وأهدافها العامة، ثم اختلفوا على التفاصيل، ولاسيما حول كل ما يتعلق بمفهوم الديمقراطية بما تعنيه من استقلال السلطات الثلاث، والتعددية، وحقوق المواطنة والمواطنة المتساوية من أجل سورية الجديدة التي يفترض أنهم يناضلون من أجل تحقيقها. وهو ما يشكل اليوم إحدى العقبات الأساس أمام اعتماد لا مفهوم  المواطنة فحسب بل كذلك مفهوم الديمقراطية وما يعنيه كل منهما بالنسبة إلى حقوق السوريين في الحرية والكرامة اللتين ثاروا من أجلهما. ولهذا كان لابد من تحديد مفهوم المواطنة المتساوية ثم استعراض معوقات اعتمادها والعقبات السبع التي تقف في وجه تحقيقها دستوريًا وقانونيًا وسياسيًا واقتصاديًا.

   وفي الجزء الأخير من هذا الفصل، وفي ضوء المعوقات والعقبات، جرى تناول ممكنات تحقيق المواطنة المتساوية في سورية المستقبل والمهمات التي يقع على كاهل القوى السياسية ومراكز الدراسات والمواقع الإعلامية عبء العمل من أجل التمهيد لمواجهتها بمختلف الوسائل التربوية والتثقيفية والتوعوية، فضلًا على العمل حثيثًا من أجل توحيد كلمة غالبية القوى الوطنية السياسية المعارضة كي تستعيد للسوريين دورهم في تقرير مصيرهم الذي حرموا من أدائه حتى اليوم.

     توطئة:

   عاش السوريون أكثر من نصف قرن في ظل نظام استبدادي هيمن بالتدريج على حيواتهم فرديًا وجماعيًا، لم يعرفوا خلال سنواته ما بات من بعدُ عمليًا هاجسهم اليومي، منذ ثورتهم في آذار/مارس 2011 وندائهم مطالبين بالحرية والكرامة: أن يستعيدوا حقوقهم كمواطنين. ذلك أنهم لم يعرفوا حقًا معنى أن يكون كلُّ فرد منهم مواطنًا يتمتع بالحقوق التي يتمتع بها أيُّ فردٍ في دولة مدنية، ديمقراطية، إلا خلال فترات من سنوات بدت وكأنها فترات التنفس في السجون السورية،  وكانت تودي بهم كل سنتين أو ثلاثة خلال نيِّفٍ وعقدين نحو سلطة عسكرية مطلقة، وصولًا إلى العام الفاصل، عام ما أطلق عليه صاحب الانقلاب الأخير: “الحركة التصحيحية” في 16 تشرين الثاني 1970، حين بدأ السوريون يعيشون قبل أن ينتبهوا في سجن كبير لن تتاح لهم فيه حتى فترات التنفس التي سبق لهم أن عرفوها خلال السنوات العشرين السابقة على هذه الحركة التي ظن بعضهم أن إنجازها كان استجابة إلهية لأمنيتهم جميعًا(1). “حركة تصحيحية”، في الواقع، لكل وضع سبق أن عاشه السوريون منذ وضع اتفاقية سايكس بيكو موضع التنفيذ، تقطع، على صعيد الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، بصورة كلية لا مع ما عرفه السوريون فحسب، بل مع كل ما عرفه العالم العربي أيًا كانت النظم التي حكمت بلدانه، بل ومع أعتى الأنظمة الاستبدادية التي عرفها العالم، نازية أو فاشية أو ماركسية شمولية.

   لم يكن غريبًا والحالة هذه أن يجهل السوريون في غالبيتهم العظمى طوال هذه السنوات معنى المواطنة بما تطويه من دلالات الحرية والشراكة والانتماء إلى الوطن الذي يحملون جنسيته أيًا كانت أصولهم القومية أو أديانهم أو مذاهبهم أو طوائفهم. لابل إن الصراعات السياسية التي عرفتها سورية قبل انقلاب البعث عام 1963 بين التيارات السياسية الثلاثة، القومية والدينية والماركسية حالت دون الاهتمام بمفاهيم الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان والمساواة  لصالح مفاهيم أخرى كالاشتراكية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص استخدمت أغلب الأحيان كشعارات لم تجد سبل إنجاز وعودها على أرض الواقع إلا مشوَّهة، ولقاء ثمن باهظ تجسَّدَ في القمع وغياب الحريات في مختلف الميادين وفي مقدمتها حرية الرأي والصحافة.

   يتطلع هذا البحث والحالة هذه، بعد تقديم مفهوم المواطنة والمواطنة المتساوية في تطبيقاته المختلفة في الدول الديمقراطية الحديثة من ناحية، وخلاصة وافية عن الطريقة التي استخدمت فيها كلمات الوطن والمواطن والمواطنة، إلى أن يستعيد الأسباب الرئيسة التي حالت، حتى الانتقال الحكم بالوراثة في عام 2000، دون انتشار مفهوم المواطنة في سورية سواء لدى الفاعلين السياسيين، أحزابًا وأفرادًا، أو لدى أغلبية المثقفين والمفكرين الذين كانوا يصنفون عمومًا إما في عداد القوميين أو اليساريين، وكيف استفادت الأنظمة المتوالية منذ الاستقلال، وخصوصًا منذ الانقلاب العسكري باسم حزب البعث العربي الاشتراكي في آذار عام 1963، وحتى السنوات العشر الأولى، من غياب هذا المفهوم بمختلف معانيه القانونية والعملية من المفردات السياسية الرسمية ومن ممارساتها اليومية في آن واحد.

   سيتيح عرض الأسباب إمكان الانطلاق إلى محاولة فهم واقع تفكير وممارسات مختلف التيارات السياسية والدينية عبر برامج وتوجهات وممارسات الأحزاب الرئيسة التي عرفتها سورية منذ استقلالها وحتى انطلاق الثورة السورية عام 2011، سواء في ما يتعلق بمفهوم المواطنة أو بكل ما يتصل به من مفاهيم رئيسة كالديمقراطية، والحرية، والمشاركة، والمساواة بين المرأة والرجل، وكذلك مدى وطبيعة الاهتمام الذي كانت توليه هذه التيارات على اختلافها للتقاليد الاجتماعية والثقافية الراسخة في المجتمع السوري والتي لابد من أخذها بعين الاعتبار في كل مقاربة سياسية أيًا كانت طبيعتها وتوجهها. ذلك كله مع توصيف ممارسة النظام الأسدي إزاء مفهوم المواطنة وكل ما يرتبط به من مفاهيم أخرى ارتباطاً عضويًا أو يؤلف شرطًا من شروط ممارسته على مختلف الصعد.

   سيسمح الانتقال بعد ذلك إلى مقاربات السوريين من خلال قواهم السياسية على اختلافها وكذلك إصدارات مراكزهم البحثية أو تياراتهم الفكرية حول المواطنة والمواطنة المتساوية التي ازدهر البحث فيها والنقاش حولها على نحو واسع خلال السنوات العشرين الماضية في محاولة للتركيز على المبادرة الطليعية حول موضوع المواطنة التي اختصها مؤسس بيت المواطنة، حسان عباس، بجهد خاص في مجال الكتابة والتوعية والنشر، ومن ثمَّ على أهم نقاط توافقهم أو اختلافهم في تحديد معانيها ودلالاتها وتطبيقاتها ولاسيما في مجال المساواة بين المرأة والرجل على مختلف الصعد القانونية والأحوال الشخصية، يمكن بنتيجتها وضع عناصر رؤية للوصول إلى اعتماد مفهوم المواطنة المتساوية تدريجيًا على صعيد الدستور والقوانين الناظمة له في الممارسة اليومية على صعيد الحقوق والواجبات في علاقة المواطنين بالدولة في حياتهم الاجتماعية واليومية.

     مدخل:

     المواطنة والمواطنة المتساوية.. المفهوم والتطبيق

   بقدر ما يبدو مفهوم المواطنة راسخًا ومألوفًا كمبدأ أساس في الفكر السياسي الغربي منذ  أثينا وروما، وبصورة أشدَّ وضوحًا منذ الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789، وصولًا إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بعد قرن وستة عقود عن منظمة الأمم المتحدة عام 1948، أي منذ اقتصاره على فئة محددة من الناس في المدينة وحتى شموله جميع من ينتمون إلى بلد ما ويعيشون في ظل دولته المدنية والديمقراطية دون أي استثناء بينهم بسبب الأصل أو الجنس أو الدين، بقدر ما كان يبدو في الفكر السياسي العربي عمومًا وفي سورية خصوصًا شبه غائب طوال عقود عديدة خلال القرن الماضي، ثم صار خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، حاضرًا حضورًا إشكاليًا بدا في سورية، على إثر انتفاضة الشعب السوري في آذار/مارس 2011 ، موضع خلاف وتنازع لدى مختلف التيارات والقوى السياسية بدءًا من سوء الفهم لدى بعضها، أو رفض بعضها الآخر للمفهوم في معانيه الحديثة، وانتهاء بقبول مشروط يؤدي به، بهذه الصفة، إما إلى تفريغه من معانيه التي يعيشها المواطن الغربي أو إلى استخدام إسميّ أو شكلي محض من قبل نظام استبدادي كما تجلى في الدساتير المتوالية بفعل الانقلابات العسكرية التي توالت على سورية، دون أدنى تطبيق لها في واقع الحياة اليومية لمواطنين كانوا يعاملون في ظلها كرعايا.

   في هذه الدراسة التي تستهدف توصيف واقع مفهوم المواطنة والمواطنة المتساوية في سورية وإشكالاته على الصعيديْن النظري والتطبيقي، من ناحية، وتحديد طبيعة العقبات والمعوّقات التي تقف حجر عثرة أمام اعتماد هذا المفهوم وتطبيقه من ناحية ثانية، كي تستشرف في فصل أخير مستقبلًا مأمولًا في سورية الجديدة يعتمد المواطنة المتساوية في دولة حديثة وديمقراطية، لن  تكون فاتحتها عرض أو مناقشة مختلف صيغ مفهوم المواطنة التي توالت خلال ستة عشر عقدٍ من السنين والتي تشير إلى مراحل تطوّره نظرًا وتطبيقًا باتجاه الوصول إلى الاعتماد الأممي للإعلان  العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من كانون أول/ديسمبر 1948، “بوصفه المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن تبلغه كافة الشعوب وكافة الأمم”(2)، بل اعتماد تعريفٍ يطوي في ثناياه ويوضح معاني ودلالات مفهوم المواطنة والمواطنة المتساوية كما استقر منذ منتصف القرن العشرين في الدول الديمقراطية شرقًا وغربًا، تمثيلًا وتطبيقًا لنص وروح هذا الإعلان العالمي.

   كان خالد محمد خالد من أوائل من استخدموا كلمة “المواطنة” في دلالتها الحديثة كمفهوم في عنوان ومضمون كتابه “مواطنون لا رعايا” الذي صدرت طبعته الأولى عام 1951، أي في العهد الملكي، ومن بعده فهمي هويدي في عنوان ومضمون كتابه “مواطنون لا ذميّون” الذي صدرت طبعته الثانية في عام 1990، خلافًا لما كتبه هيثم مناع في كتابه “المواطنة في التاريخ العربي الإسلامي” حول صلاحية كلمة المواطنة بالعربية لقول مفهومها الحديث أو سواه ممن رأوا الرأي ذاته. ذلك يعني، أن كلمة المواطنة باللغة العربية يمكن أن تقدم مقابلًا أشد غنى من الكلمة الفرنسية أو الإنكليزية (Citoyen, Citizen) بما أنها تنطوي بفعل وزنها (واطَنَ، مواطنة: فاعَل، مفاعَلة) على أحد أهم العناصر المقوِّمة للمفهوم الذي يحمل اسمها: المشاركة(3). بعبارة أخرى، لا حاجة في الواقع إلى أي تغيير أو تعديل يتناول  تسميتها العربية، بل ثمة حاجة ماسّة ــ نظرًا لأن المواطنة صيرورة دائمة ــ إلى تحديد شروط وجودها ومقوماتها كمفهوم، وتوضيح دلالاتها العملية وبيئتها السياسية والاجتماعية التي باتت أقرب إلى الرسوخ على صعيد التطبيق العملي في مختلف الدول الوطنية / القومية الديمقراطية في الغرب.  ذلك أن هذه الشروط والمقوّمات والدلالات العملية لا تزال غائبة بصورة شبه كلية في الفضاء السياسي العربي، وبصورة أشد قوة في الفضاء السياسي السوري منذ أكثر من خمسين عامًا. ولم يبدأ الحديث عنها والعمل النظري الجادّ على مفهومها في سورية إلا خلال السنوات العشرين الأخيرة، وبصورة أكثر كثافة بعد انتفاضة السوريين في آذار/مارس 2011 معلنين رفض الاستبداد والاستعباد، مطالبين بالحرية والكرامة. وكان أهم إنجاز ماديٍّ وعملي خلال هذه السنوات الأخيرة  قد تجسَّدَ في “الرابطة السورية للمواطنة” ودار النشر الملحقة بها “بيت المواطن” التي يمكن مراجعة منجزاتها على موقعها الرسمي، والتي كان أشدّها أهمية في ضوء ما أسست كي تعمل من أجله، كتاب “دليل المواطنة”(4).

   من الممكن القول إن هذا الكتاب، الذي يجمع بين دفّتيه عرضَا دقيقًا لمفهوم المواطنة في التاريخ ومختلف التعريفات التي وضعت له والعلاقات التي تؤلف مقوِّماته الأساس، يقدم لنا صيغة معاصرة يمكن لهذه الدراسة تبنّيها بداية بما أنها الصيغة التي اعتمدت عناصرها، على صعيد التطبيق الدستوري والقانوني، في مختلف ديمقراطيات عالمنا المعاصر لمفهوم المواطنة وتعريفها بوصفها الوضع الذي “يميِّز العلاقات القائمة بين المواطن من جهة، والدولة (أو المؤسسات)، والمجتمع (أو المواطنين الآخرين)، والفضاء (أو مجال العيش المشترك) من جهة أخرى. وهو وضع يقوم على مبادئ راسخة هي: المسؤولية والحرية والتشاركية والمساواة،  ويفترض عددًا من القيم المواطنية، أهمها: الكياسة (الآداب العامة)، والتضامن، والوعي المدني والإنسانية”(5).

   يعكس هذا التعريف الأقرب إلى أن يكون جامعًا لمفهوم المواطنة مدى التقدم الهائل الذي حققته الأمم في تطوير فهمها لحقوق الإنسان التي تتجسد جوهريًا في الحرية والكرامة والمساواة، مثلما يعكس في الوقت نفسه أحد أهم أركان الدولة الديمقراطية الحديثة الثابت في دستورها والموضوع بفعل قوانينها موضع التنفيذ. لكنه يشير أيضًا إلى فضيحة غيابه، وبالتالي غياب الديمقراطية قرينته، على مختلف الصعد في العالم العربي عمومًا وفي سورية خصوصًا. لا يعني ذلك غياب كلمة المواطنة في الدستور أو في القوانين، بل غياب معاني مفهومها الذي يقوله التعريف السابق في الممارسة وفي التطبيق فضلًا على القوانين التي تتناول عناصره كلها أو بعضها بالتفصيل. ومن هنا كانت ضرورة هذه الدراسة التي ستحاول تشخيص واقع المواطنة في سورية وتجلياتها في مختلف التشريعات، بالإضافة إلى تناول مختلف محاولات تبنيها أو تطبيقها أو تجاهلها في وثائق وبرامج القوى السياسية والتيارات الدينية والليبرالية قبل عام 2011.

   على أن مقاربة مفهوم المواطنة وحده لا يكفي سواء في الحالة العربية عمومًا أو، كما هو الأمر في هذه الدراسة، في الحالة السورية خصوصًا دون ضمِّ مفهوم المساواة إليه، أي: المواطنة المتساوية. إذ لا يمكن في دولة ديمقراطية حديثة وقفَ حقوق المواطنة وواجباتها على هذه الفئة أو تلك من المواطنين جميعًا، بل يجب أن يمتد ليشمل تمتع جميع المواطنين، إناثًا وذكورًا بحقوق المواطنة المتساوية أمام القانون، بمعزل عن أي تحديد يمسّ اللون أو الجنس أو العرق أو الدين أو المذهب، وفي غياب أي تمييز أو حدود تمس أي حق من حقوق المساواة يقتضيه هذا المفهوم.

   طبيعي والحالة هذه توصيف وضع المواطنة والمواطنة المتساوية في سورية قبل وخلال سنوات الحكم البعثي والأسدي في حضور كلٍّ من مفهوم المواطنة الشكلي وغيابها الفعلي والغياب شيه الكلي للمواطنة المتساوية في الفضاء السياسي والاجتماعي والثقافي، ومن ثم عرض مدى انعكاس كل من المفهوميْن في وثائق وبرامج أو مواقف مختلف القوى السياسية والتيارات الدينية، وكذلك في كتابات المثقفين، وما يمكن الوصول إليه من وثائق أو شواهد في مجال التربية والتعليم. وسيستكمل هذا الفصل ببحث العناصر نفسها خلال السنوات العشر الأخيرة منذ انطلاق الثورة السورية وازدياد الاهتمام بمختلف قضايا إعادة صوغ العلاقة بين السوريين ودولتهم من خلال عقد اجتماعي يوفر لهم حقوقهم في الحرية والكرامة والمساواة، وهو ما سيمهد لبحث المعيقات الجوهرية أمام الوصول إلى تحقيق مقوِّمات المواطنة المتساوية ونشر قيمها على صعد الإرادة السياسية والتقاليد والعادات والميراث الثقافي والتشريعي، وصولًا إلى بحث مختلف إمكانات التغلب على هذه المعيقات، الآن وغدًا، من أجل العمل على بناء سورية الجديدة ودولتها الديمقراطية المأمولة.

الهوامش:

(1). « طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ أسد »، جملة امتلأت بها شوارع دمشق في إثر انقلاب حافظ الأسد على رفاقه وهيمنته على السلطة في سورية.

(2). مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، صحيفة الوقائع رقم 2(Rev.I)، الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

(3). يتحدث مضر رياض الدبس في كتابه (مفهوم المواطنة أو صورة السيتزنية في المستقر الإيماني) عن أن كلمة المواطنة كانت ترجمة عن اللغات الأوربية و«ليس لها وجود بوصفها ابتكارًا فكريًا عربيًا سمِّي لغويًا ».. لكن كلمة المواطنة ليست محض ترجمة، بل تقول المعنى الأول والأساس لهذه الكلمة باللغات الأوروبية بل لعلها تحمل دلالة أكثر غنى من الكلمة الإنكليزية أو الفرنسية أو اللاتينية: ليست كلمة المواطنة هي التي «تحيل  كما يقول  إلى مكان الولادة والنشأة الأولى»، بل كلمة الوطن؛ أما المواطنة وهي على وزن مفاعلة، فهي تتجاوز دلالة كلمة الوطن إلى فعل آخر ينطوي على التبادل والشراكة. ولنا أن نغذي هذا المفهوم بالدلالات التي تنسجم مع الأصل اللغوي وتتكيف مع التوظيف المراد منها في فكرنا المعاصر، والأهم في هذا المجال يتجلى في وعينا ووصولنا إلى تطبيق المعاني المراد تحميلها لهذا المفهوم الذي يمكن لكلمة المواطنة أن تحمله وتقوله بلا أية رطانة أو لزوم ما لا يلزم. مثال ذلك كلمة (الثقافة) التي اعتمدت باللغة العربية ترجمة لكلمة ( Culture)، ثم رُسخت إذ اغتنت منذئذ مع تقدم الدراسات والأبحاث في مختلف مجالاتها بوصفها مفهومًا ينطوي على دلالات متعددة، شأنه شأن قرينه في أي لغة أوروبية.

(4). انظر الموقع الإلكتروني للرابطة، الرابط: http://sl4c.org/ar/

(5). حسان عباس، صباح الحلاق، ماريانا الطباع، وسام جلاحج، دليل المواطنة، الرابطة السورية للمواطنة بالتعاون مع بيت المواطن للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2016، ص21.

…………………

يتبع.. (2/3)؛ «1- واقع المواطنة في سورية، مفهومًا وتطبيقًا 1946ـ2021»

ــــــــــــــــــــ

المصدر: حرمون

 

الدكتور بدر الدين عرودكي:

كاتب أكاديمي وصحفي ومترجم سوري

التعليقات مغلقة.