الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«مذكرات الناجي»

رنا قباني *

أذكر مرة كنت أسير في شارع متواضع من شوارع شمال لندن، فتوقفت عند بائع لأشتري ما أشرب، كنت في الصف، أنتظر دوري لكي أدفع، فلاحظتُ سيدة أمامي، رغم سنها المتقدم، ترتب أكياسها الكثيرة، وتلهث.

فوراً جذبتني وحدتها واغترابها (فلهجتها الأفريقية الجنوبية وهي تتكلم مع البائع كشفتها) ووجدت أن حنينا مؤلماً قد اعتراني فجأة، كما يعتري كل منفي أو لاجئ عن أرضه. لحقتها حين خرجت من المتجر، وطلبتُ منها أن تسمح لي بحمل بعض أكياسها. ردها كان غير الرد البريطاني المعتاد، المؤدب جداً، بل الحاد دوماً في عدم الرغبة في الاعتماد على الغير أو التعاطي العفوي مع أحد، غريباً كان أم قريباً. على العكس، ابتسمت هذه السيدة، ولم تعترض حين أخذت منها ثلاثة من أكياسها الخمسة. مشينا ببطء، وقالت أن الثقيل في حملها هو طعام هرتها، التي أصبحت هرمة مثلها، فلم تعد تأكل أي شيء يمكن تحضيره في البيت. قلت أني لم أذكر العيش في بيتٍ خلا من هذه المخلوقات البديعة والغامضة كل الغموض. وصفتُ لها قطط دمشق، اللواتي كن مدللات في أراضي الديار، يلبسن أطواق الخرز الأزرق، وينمن في الليوان. وقيل أن قدرتهن على السباحة في مياه البحرة لم تكن فقط لاصطياد السمك الأحمر الذي عاش فيها، بل بسبب ذاكرة جماعية في تركيبهن البيولوجي، إذ كن منحدرات من قطط بحيرة «فان» في الأناضول الشرقي، حيث سكن الأتراك والأرمن معاً ولقرون قبل المجازر، يتمتعون بثلج أزرق على جبالهم في الصيف، وببحيرة ذات مياه مالحة وشكل مثلث، تسبح فيها قطط ذات عيون غير متجانسة، واحدة صفراء والأخرى خضراء.

لاحظتْ مستمعتي أنني كنت أصف كل هذا بكثير من العاطفة، فقالت ببساطة: «أظنك تحبين ما أحب أنا- القراءة ووصف تضاريس الطفولة لكي لا تذوب تحت مطر لندن!» وبالفعل كنتُ اقرأ، وأنا في القطار في طريقي إلى تلك المنطقة من العاصمة البريطانية التي لم أعرفها من قبل، أجمل سيرة ذاتية عن طفولة بنتْ في أفريقيا؛ عن أهلها ومزرعتهم هناك، التي كانت تعج بالقطط، والتي أصبحت، حين كبرت وخرجت من الدار، لتصطاد في ليل البرية، متوحشة مثل النمور، وخطيرة على الأطفال والماشية. فاضطر الأب الى قتلها. لكنه- وكان حالماً أكثر منه مزارعاً- لم يتحمل المجزرة التي ارتكبها، فانهار، بعد أن أنقذ قطة زوجته المفضلة، ووضعها على السرير في غرفتهما، لكي تنجو من الدم وتنام.

«تعبتُ! تعبتُ كثيراً» صرخت في فجأة السيدة المسنة، وأرادت أن نجلس في أقرب مقهى على طريقنا. طلبنا الماء والشاي وأخذت تحرك قطعة السكر التي وضعتها في فنجانها بصمت ثم سألتني إذا كان بإمكانها رؤية الكتاب الذي حدثتها عنه. أخرجته من حقيبة يدي: كانت أطراف صفحاته ممزقة بعض الشيء، وغلافه عليه بقع ماء وقهوة، إذ أنني اشتريته من مكتبة أنطوان في بيروت حين سقطت المدينة في حربها الأهلية قبل عمرٍ من حديثنا، إذ أردت قراءته لشاعري الذي تزوجته لأنه أهداني قطة بدل الخاتم. كان يسألني دوماً لماذا لا «أخرخر» مثلها، لكي يطمئن أنني سعيدة معه، ولن أتركه.

أخذت السيدة المسنة الكتاب من يدي، وطلبت قلماً من صاحب القهوة. «كنت في عمركِ حين كتبتُ هذه الكلمات»، قالت لي “دوريس ليسينغ”، التي نالت، بعد سنوات من هذا اليوم الصدفة، جائزة «نوبل» للأدب لعام 2007، لعملها الرائع في وصف مجتمع الأبارتهايد في روديسيا، ولعقيدتها النسوية السباقة لزمنها، المتمردة على كل الأيديولوجيات، بما فيها اليسار الذي لم يتبرأ بسرعة كافية من إبادات ستالين- ذاك اليسار الغربي الذي انتمت إليه في صباها، والذي لا يختلف أبداً عن يسارنا العربي وعن فكرنا القومجي البائس، الذي صَفَ ببذاءة مع الطغاة. أخطر كتبها بالنسبة لي، وأكثر كلامها تعبيراً عن قدرة الإنسان على ارتكاب الجرائم العبثية في المدن الحديثة، أثناء الحروب والحصار والمجاعات والخراب الشامل، هو كتاب «مذكرات الناجي». عدتُ وقرأته مراراً في آخر ثلاث سنوات، لكي أحاول أن أفهم ماذا فعل النظام الأسدي بدرعا وحماة وحمص ودير الزور ومدننا السورية كافة. وصف ‘ليسينغ’ فيه لرجال ونساء أصبحوا مجرد آلات غبية مفرغة من كل رحمة، تمارس النهب والاغتصاب والذبح، هو أدق وصف لشبيحة بشار الأسد وما فعلوا ويفعلون بالناس. عاشت ‘ليسينغ’ لفترة في صباها في إيران، قبل أن تتآكلها الحروب التي لم يربحها إلا تجار الأسلحة، وتأكلها بلقمة واحدة وبطمع الجشع الجائع إلى سلطة «أبدية» لا تمسك إلا بالقمع الأعمى، والدعاية السوداء، وبالتوسع الجنوني خارج حدودها، بدعة «ولاية الفقيه».

لم يبدأ التاريخ الحديث لمنطقتنا عد جرائمها، ولا تخريبها لحرية جيل بأكمله. لم يحصِ كيف زجت الطائفية الحمقاء في النفوس والأجساد، ولم يصف بالأرقام فساد مُنظريها وغطرستهم وشعبهم يكافح على حافة الجوع. أما «مقاومتهم» الزائفة، فقد جاءت كارثية على القضية الفلسطينية في نظر العالم، خاصة بعد تجويع مخيم اليرموك في دمشق.

حين غادرتني “دوريس ليسينغ”، قالت لي: «ليس بإمكاننا تغيير البشرية ولا الرجل، ولكننا بإمكاننا أن نكن أمينات في البلاغ عما عشناه ورأيناه: أن نكون شاهدات على العصر».

* كاتبة سورية

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.