الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

في خدمة الدولة

رنا قباني *

منذ سبع سنوات (أي في 2007)، إحدى السفيرات السوريات المتقاعدات، من اللواتي توظفن في وزارة الخارجية قبل فترة من تسلط حزب البعث على الحكم (وهذا يفسر إتقانها للغات اجنبية عدة، ولباقتها المنشودة في تمثيل وطنها، واستقامتها في العمل ونظافة كفها)، كانت جالسة في شقتها المتواضعة في دمشق (التي ورثتها عن أهلها- ولحسن الحظ- لأن معاشها التقاعدي في النعيم الأسدي، بعد تمثيل بلدها في الخدمة لمدة أربعين عاماً، كان لا يتجاوز السبعين دولاراً شهريا )، رن عندها جرس التليفون، سمعت أختها الأرملة تطلب منها القدوم فوراً لدارها. مثل كل السوريات والسوريين الذين عاشوا في ‘كوريتنا الشمالية الشرق الأوسطية’، فهمتْ السفيرة فوراً من نبرة الصوت أن المسألة لا يمكن البت بها على الهاتف. كانت كل كلمة تُحكى عبر الخطوط المراقبة، والتي تُسمع من مخابرات بشار الأسد، هي كلمة يمكنها أن تؤدي على التو إلى “مقبرة الدحداح”. وهذا في أيام العز، حين كان جسد من يموت تحت التعذيب يُعاد لذويه، مقابل رشوة معقولة إلى حد ما، تتناسب مع معدل نسبة الدخل القومي.

لذلك، سارعت السفيرة إلى خلع «الكيمونو الساتان» الذي كان اللباس الدمشقي المعتاد لتناول حواضر العشاء المسائي- من مكدوس، وجبنة بيضاء مغلية (تُهرس بالشوكة حين تصبح ساخنة طرية مع حبة البركة وَرَشة مسك)، وكأس شاي أحمر في «استكانته» الزجاجية، مع قليل من معقود قشر الكباد للتحلية- ولبست ثوبها، والمانطو «الديمي سيزون»، لأن الطقس كان متغير المزاج، مثل نيرون سوريا، وتوجهت في تكسي عمومي أصفر إلى حي المزرعة. التكسي العمومي تفصيل دقيق هنا، لأن التكسي من مكتب خاص كان أغلى، أو كان ينتمي لإسطبل رامي مخلوف، مثل كل شيء في البلد، فيضرب قيمة المشوار بعشرة أضعاف على الأقل. السفراء والوزراء القدامى كانوا لا يحلمون بدولاب سيارة، لأن قوانين «خدمة الدولة» كانت لا تجاملهم إلا إذا كانوا من «عظام الرقبة» لنظامنا الأسدي شنيع الفساد. وأذكر حين ذهب عشرة سفراء مثلوا سوريا من جيبهم الخاص لسنين- لأن معاشهم لم يسمح لهم بتمثيل بلدهم بشكل لائق إلا إذا سرقوا (وكانت السرقة لا تليق بتقاليدهم الأخلاقية بالتفريق بين المال الحلال والمال الحرام، ولا بسمعتهم، ولا بصيت عائلاتهم وبتاريخها الوطني الحافل)-، ذهبوا ليطلبوا من عبد الحليم خدام، وزير خارجية حافظ الأسد آنذاك، أن يسمح لهم، إذا استطاعوا واشتروا سيارات متواضعة، إدخالها «بإذن مؤقت» إلى دمشق.

وقتها كان أولاد «المسؤولين» في المافيا الأسدية، يعتبرون كل شيء في الوطن ملكَهم الخاص، مثل شقق الآخرين، وأبنيتهم، ومشاريعهم التجارية، وأراضيهم، وحتى البحر المسكين البريء نفسه، الذي قيل أنهم قد تآمروا عليه، ليملأوه بنفايات نووية من بلد آخر، في صفقة مادية ضخمة لصالحهم. كان الاسد الأب على علم بها، ولم يُحكَ عنها في مسرح الدمى الذي كان ومازال يسمى «مجلس الشعب»، إلا حين انقلب خدام إلى «معارض»، ويا للمهازل، مثلما فعل مصطفى طلاس وأولاده فيما بعد. صرخ خدام بوجه ضيوفه وأطلق هذه الجملة الدبلوماسية الخالدة: «وهل يعقل؟ بعد كل هذه السنين في خدمة الدولة، لا تملكون سوزوكي حتى، وكل ‹مومس› في البلد تُهدى من ضباطها، ومن المال العام، آخر طراز من المرسيدس ‹الشبح؟» وطبعاً، لم يحرك خدام ساكناً لمساعدة هؤلاء التعساء، فغادروا هذا اللقاء السريالي، الذي وضعهم في مرتبة أدنى من تلك المومس، وعادوا إلى بيوتهم بخفي حنين، وفي التكسي العمومي الأصفر.

نعود الى سفيرتنا المتقاعدة، التي وصلت إلى مبنى قديم ظهرت عليه معالم الاهتراء، فوجدت أختها تنتظرها على الدرج، وكان وجهها قد صار «سيرقوني» اللون من الرعبة، كما يقول أهل الشام. حين دخلتا إلى المطبخ، وفتحت الأخت الراديو لكي لا يُسمع صوتهما فوق صوت المطرب (الذي سيصبح فيما بعد، ويا للعار للتراث الغنائي التقليدي في بلادنا، حنجرة التشبيح «المياسي» الجاعرة)، قالت، وهي تلطم خديها بعنف من فقد الصواب، إن ابنها الوحيد اختفى منذ الساعة الواحدة ظهراً. وقال لها بقال، سمع عن خياط، سمع عن سمكري في الحي، أنه قد أوقف عند حاجز أمن معروف، وهو في طريقه إلى مستشفى عمومي، لإجراء عملية خطيرة لمريضة لها أولاد صغار، فأمره العسكري أن ينزل فوراً إلى «خيمة استقبال» أقيمت في الشارع- وكانت رائحة اللحم المشوي تفوح منها، ذلك اللحم الذي أصبح أندر من حليب البلابل من شدة غلائه بالنسبة للأكثرية السورية (التي لم تعتقد، يومها، أنها سوف تضطر، بعد عدة سنوات فقط، أن تأكل خبز العدس، والقطط، وأوراق الشجر، وتموت من الجوع)- رغم هذا أمره أن يهبط  ليدمغ بقليل من الحبر أو الدم، والسائل الثاني كان هو بالطبع المحبب أكثر، على استفتاء الـ”نعم” للرئاسة الوراثية، الذي كان قد نظم من قبل الأجهزة المخابراتية. قال الطبيب الشاب إنه سيفعل فور عودته من المستشفى، شاهراً بطاقته كجراح في مستشفى المواساة في دمشق. أنزله الملازم الذي أتى ليحل الموضوع، وهو ابن ضيعة دريكيش في الساحل السوري البديع، وأركعه أرضاً ثم بدأ بِلبطهِ أمام أعين كل الناس، حتى جاءت سيارة المخابرات لتأخذه إلى حيث اختفى منذ ذلك اليوم.

هذه مجرد واقعة واحدة من ذاكرة استفتاء دم، بعد استفتاء دم، بعد انتخابات دم. والشعب السوري واحد: واحد تطلع روحه، منذ 44 سنة!

* كاتبة سورية

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.