الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

محمد علي باشا.. من مذبحة القلعة إلى الحرب على الوهابيين

أحمد عبدربه *

بعد رحيل الفرنسيين، عادت مصر مرة أخرى إلى مرحلة الفوضى العارمة التي سبقت قدوم الحملة الفرنسية، عاد المماليك للصراع مع الأتراك، بل وكانت تقع الدسائس حتى بين قيادات الدولة العثمانية ومبعوثيها فى مصر، وكذلك تارة يقف الإنجليز وقواتهم فى مصر إلى جانب المماليك، وتارة مع العثمانيين حتى رحل الجيش الإنجليزي عن مصر أخيرا بعد سياسة مرتبكة فى المحروسة.

فى تلك الفترة كان شاباً عسكرياً أخذ صيته فى الذيوع فى الأستانة نظرا لمهاراته العسكرية وقوة شخصيته. كان الفتى يدعى محمد علي وهو المولود فى قولة (فى اليونان حالياً) لأسرة من أصول ألبانية فى 1769. لم تكن بداية ’علي‘ فى الحياة سهلة، فتُجمع الكتب التاريخية على تواضع مستوى معيشته فى أسرة كان أبوه هو عائلها وكان يعمل كقائد للخفر فى المدينة، ورغم أن المنصب يبدو براقاً إلى أن راتبه لم يكن يحصل عليه كاملاً وهى سياسة مالية اتبعتها الدولة العثمانية مع معظم موظفيها خارج الأستانة واستمرت حتى عهد الخليفة عبدالحميد الثانى الذى خُلع من عرشه فى السنوات الأخيرة للعثمانيين.

تيتم محمد علي مبكراً، فعاش مع عمه الذى توفى بدوره بعد فترة قصيرة، فتولى الاهتمام به شوربجي (حاكم) قولة، وهو ما يعتقد أنها الفترة التي ولدت عند ’علي‘ مهارات الحكم والسياسة! فى تلك الفترة تحكي الروايات التاريخية عن تقرب محمد على من تاجر فرنسي يدعى “ليو” يعيش فى قولة، حيث رأى الأخير فى الأول الذكاء والفطنة وقوة الشخصية فقربه إليه واعتنى به وأخذ يعطيه من خبرات حياته حتى تأثر محمد علي بالرجل وأصبح لديه تقدير واحترام للثقافة التحديثية والحضارة الفرنسية (كتاب «محمد علي.. سيرته وأعماله» للمؤلف إلياس الأيوبي، تم إعادة نشره إلكترونياً بواسطة دار نشر هنداوي فى 2014).

***

اعتمد شوربجي قولة على محمد علي فى تطهير المدينة من اللصوص ونشر الأمن فيها، وقد نجح ’علي‘ فى ذلك بالفعل بفضل مهاراته القتالية وخاصة فى الفروسية، فلما ذاع صيته فى المدينة تم استدعاؤه إلى الأستانة بواسطة الباب العالي لقتال اللصوص ونشر الأمن الداخلي ثم لاحقاً تم تكليفه ببعض المهام البحرية فى بحر مرمرة وخاصة مطاردة القراصنة فنجح فى تلك المهمة أيضاً، مما زاد من ثقة الباب العالي فى مهاراته فتم تعيينه لاحقاً وهو فى بداية الثلاثينيات من عمره نائبا للفرقة العسكرية التي أرسلها السلطان العثماني لمطاردة الفرنسيين فى أيامهم الأخيرة بمصر، وسريعاً ما أصبح قائدها.

أظهر ’علي‘ مهارات عسكرية ومواهب سياسية بارعة بمجرد وصوله إلى مصر، فتقرب من الولاة العثمانيين، متحالفا معهم أحياناً ومتخلياً عنهم فى أحيان أخرى، واستغل تلك الفوضى العارمة التي دبت فى البلاد وتقرب من المصريين بسرعة شديدة، ثم لاحقاً تقرب أيضاً من علماء الأزهر وأظهر تدينه الشديد ومواظبته على الصلاة، كما تقرب من أعيان البلد ومنهم “عمر مكرم” نقيب الأشراف قبل أن ينقلب عليه ويتخلص منه لاحقاً، فطارت الأنباء إلى الباب العالي بالطريقة التي تصعد بها شعبية محمد علي فى حكم البلاد، فقرر السلطان العثماني إبعاده عن حكم مصر بأن ولاه ولاية مكة لكن رفض محمد على متحججا برفض أعيان البلاد مغادرته، فلم يجد الباب العالي مفرا من تعيينه على مصر فى 1805 وهو التعيين الذى شهد مباركة من شيوخ البلاد وعلمائها ووجهائها.

بحسب المؤرخ إلياس الأيوبي، فإن ’علي‘ بمجرد توليه حكم مصر قد واجه خمس تحديات كبيرة:

تمثل التحدي الأول فى عدم ثقة ’علي‘ فى نية الباب العالي تجاهه وخاصة فى ظل تقليد اتبعه الأخير بعدم تعيين والٍ على مصر لأكثر من عامين.

أما التحدي الثاني فقد تمثل فى خطر الإنجليز الذين خططوا لنصرة المماليك على محمد علي وخلعه من الحكم.

فيما كان التحدي الثالث متعلقاً بمعارضة المماليك لحكمه ومحاربتهم له ولجيشه.

كان التحدي الرابع متعلقاً ببعض الثورات التي قامت عليه من جنوده حتى وصلت إلى محاولة إطلاق النيران على منزله بسبب محاولته فرض النظام عليهم بعد أن عاثوا فى البلاد والقرى فساداً ونهباً.

وأخيراً كان التحدي الأخير هو تحدٍ مالي بالأساس، فخزائن البلاد كانت خاوية مما أعاق طموحاته فى الحكم والتوسع.

***

فيما يتعلق بالتحدي الأول، فلما وصل فرمان من الباب العالي بعد عام واحد فقط من توليه الحكم بترك مصر والذهاب لولاية سالونيك، فقد تظاهر محمد علي بطاعة الباب العالي وكرر فعلته الأولى، فجمع أعيان البلاد وأشرافهم ليخبرهم أنه عازم على المغادرة، ولكنهم رفضوا ذلك بشدة كما توقع هو وخطط، فرد عليهم رسمياً بأنه لا يستطيع مخالفة الفرمان فى محاولة منه لتطمين الباب العالي حينما تُنقل إليه أخبار الاجتماع، لكنهم تمسكوا به، فأوعز إليهم الكتابة إلى الباب العالي بطريقة لا تبدو منها أنه من خطط لذلك، فقام عمر مكرم والشيخ الشرقاوي بطلب إبقاء محمد علي فى الحكم من السلطان مشيدين بصلاحه وتدينه وولائه المطلق للأستانة، وهكذا تمكن فى البقاء على حكم مصر دون إغضاب الباب العالي، بل ولاحقاً حينما طلب الباب العالي منه إرسال حملة عسكرية للقضاء على الحركة الوهابية المتحالفة مع الزعيم القبلي ’سعود‘، فإنه أظهر الطاعة الفورية وجهز جيشاً بقيادة ابنه طوسون للهجوم على الوهابيين وتثبيت حكم العثمانيين فى مكة والمدينة.

وفى مواجهة الخطرين الثانى والثالث فقد اتبع محمد علي سياسة بارعة، اعتمدت أولاً على إنهاء التحالف بين المماليك والإنجليز وذلك عن طريق قيامه باستمالة المماليك بل ولاحقاً بعقد صلح معهم وتأمينهم فى ديارهم وممتلكاتهم مقابل طاعة الأخيرين له، وفيما يتعلق بالإنجليز فقد أظهر الجيش تحت قيادته براعة فى التحالف مع الأهالي لمواجهة الحملة العسكرية الإنجليزية بقيادة فريزر (1807ــ1809)، حتى تمكن من هزيمتها فى النهاية مما زاد من مكانته لدى الأستانة.

ثم تخلص محمد علي من المماليك لاحقا فى مذبحة القلعة الشهيرة عام 1811 حينما وجه الدعوة لأكثر من 400 رجل منهم لموكب تنصيب ابنه على الجيش الذاهب لمحاربة الوهابيين، ثم غدر بهم وأجهز عليهم فى مذبحة كانت بمثابة النهاية الفعلية لوجودهم فى مصر، ثم سار جيش ’علي‘ بعدها إلى شبه الجزيرة العربية للتخلص من الوهابيين وبعد سنوات طويلة من الكر والفر فقد تمكن أيضاً من القضاء عليهم وتثبيت حكم الحجاز للدولة العثمانية فازدادت مكانة محمد علي لدى الباب العالي بشكل أكبر، فقد كان الأخير على وشك خسارة حكم المدينتين الأهم فى العالم الإسلامي وها هو محمد علي يثبت حكم السلطان فيهما.

أما ما يتعلق بجنود محمد علي الذين كانوا يتمردون عليه من وقت لآخر ولا يطيعون أوامره بعدم سلب الأحياء والقرى، فقد تدارس الأمر ووجد أن أحد أهم أسباب تفوق جيش بونابرت هو أنه جيش نظامي، فعمد إلى تحديث الجيش المصري وتنظيم صفوفه وإعادة هيكلة قياداته والتخلص من القيادات العليا المتمردة وكذلك التخلص من الجنود غير النظاميين الذى كانوا يعملون بعض الوقت فى مقابل أجر فتمكن بالفعل من إنشاء جيش حديث فى المنطقة مكنه من الوهابيين ومن حملاته اللاحقة على فلسطين والشام والسودان.

أما التحدي المالي فقد كان الأكبر أمام ’علي‘، فمن ناحية كان يحتاج المال بشدة لمواجهة كل هذه التحديات السالف ذكرها، ومن ناحية أخرى فقد خشى من غضب الناس إذا ما زاد من الضرائب عليهم، فلجأ أولاً إلى تحصيل المبالغ المتأخرة لدى المسئول المالي العام (المعلم جرجس الجوهري)، ثم فعل الأمر نفسه مع مسؤولي المالية فى الأقاليم ولكن ما تم تحصيله من هذه الاستراتيجية لم يكن يكفى، فأعاد طلب تحصيل المزيد من المال من جرجس الجوهري مما دفع الأخير إلى الفرار من البلاد، فبحث محمد علي عن طرق أخرى لتحصيل المال منها الاستيلاء على القوافل التجارية ومطالبة أصحابها بمبالغ مالية مقابل الإفراج عنها، ومنها اتهامه للبطرك الرومي بأنه من ساعد جرجس الجوهري على الهرب ومن ثم فرض عليه غرامة مالية كبيرة، ثم دار على أملاك نساء المماليك وقام بالسطو عليها بالكامل ولم يُعِدها إليهن إلا مقابل المال، ولما كان كل ذلك غير كافٍ فقد قرر فرض ضريبة تقدر بثلث إيراد الملاك فى مصر واستعان فى ذلك بالمشايخ والعلماء لتأييد القرار، بل وقد اتهم الأشراف بالفساد وادعى أنهم أدخلوا الأقباط واليهود بين أعضائهم ففرض عليهم عقوبات مالية!

وأمام حربه التوسعية فى المنطقة لم يجد بدًا فى النهاية من زيادة الضرائب على المواطنين واحتكار تجارة بعض السلع مثل التبغ، بل وفرض ضرائب إضافية على الأطيان الزراعية، مما أدى إلى غضب الناس منه فقام عمر مكرم نقيب الأشراف بدعوة العلماء والأعيان للاجتماع من أجل التباحث وانتهى الاجتماع برفض قرارات محمد علي مما دفع الأخير إلى الإطاحة بمكرم والاستيلاء على إيرادات أوقاف المساجد ثم الاستيلاء على الأوقاف نفسها، ثم قرر تخفيض نسبة الذهب فى العملة مع الحفاظ على قيمتها ثم احتكر الزراعة والتجارة فى البلاد حتى استتب له حكم مصر تماما.

* باحث أكاديمي مصري ومدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.