الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ضرورات السلطات وخيارات الجماهير

                      

    على مشارف العام الجديد، تتكشف أكثر المخاطر والتحديات المقبلة على المنطقة العربية ومحيطها الإقليمي، فمنذ دخول جو بايدن إلى البيت الأبيض، تنتهج المجموعة العربية بقيادة الرياض وأبو ظبي، استراتيجية جديدة مغايرة لما كانت عليه زمن ترامب، وذلك حيال كل ما يتعلق بالعلاقة مع إيران خاصة ما يتعلق باستئناف الاتصالات الدبلوماسية معها، بعكس كل ما روجوا له وادعوّا طيلة المرحلة الماضية، وكل ذلك يتقاطع مع تطوير العلاقات مع النظام السوري وإسرائيل وعبرهـا.

    فهل هناك فارق بين إسرائيل وإيران بما يتعلق بالأمن القومي العربي؟ ولماذا يتم التخفي خلف العداء لأي منهما بالتقرب من الآخر؟ وهل هذا مغاير للرغبة الأميركية أم متوافق معها، أم أن هذا كله يتطابق مع ضرورة التخلص من آثار وارتدادات الثورة التي انطلقت نهاية 2010 على الأرض العربية؟

    ألم تكن كلاً من نظُم المغرب والأردن ومصر وموريتانيا والسودان وإمارات الخليج العربي معنية بالتطبيع مع إسرائيل فضلاً عن سورية المُطبِعة سراً منذ 1970؟ أليست باقي النظم تحاول الإغراق بعلاقات أكثر مع إيران بعدوى من لبنان وسوريا والعراق وتأثراً باليمن؟ إلى ماذا يشير هذا الهبوط والتردي العربي ومحاولة تدوير نظام القتل والجريمة القابع في دمشق؟ وهل ذلك تم بشكل عفوي أم بتخطيط مسبق لقطع طريق الحرية والتقدم العربي بعد انطلاق الثورة العربية المستمرة؟

    إن الحدث التونسي والتصعيد الجزائري- المغربي الأخير والخطير، أحد ثمار التنافس الإيراني الصهيوني كما تبعات الخلاف حول سد النهضة بين أثيوبيا وكلاً من مصر والسودان، وليس ببعيدٍ عن نفس السيناريو المطبق في اليمن والعراق ولبنان وسورية.

    لقد أجرى السعوديون في بغداد سلسلة اجتماعات سرية مع مسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى، وشارك في جزء منها السفير السعودي في العراق؛ ولاحقاً، بدأ الإماراتيون حواراً مع الإيرانيين، ثم عيّنوا مؤخراً وزير دولة وديبلوماسي سابق للشؤون الخارجية للدفع قدماً بالحوار مع طهران، وقد اجتمع بنائب وزير الخارجية الإيراني والمسؤول عن البرنامج النووي، وصرّح في ختام لقائه بالمسؤول الإيراني- الذي زار أبو ظبي- بأن ’’هدف الاجتماع التوصل إلى ترسيخ العلاقات وتخفيف التوترات حيال إيران‘‘، وأضاف ’’أن وفداً إماراتياً رفيع المستوى سيقوم بزيارة إلى العاصمة الإيرانية قريباً‘‘!.

    لم يكتفِ الإماراتيون باستئناف الحوار مع طهران، فبعد محادثة هاتفية بين محمد بن زايد وبين بشار أسد، أرسل الأول وزير خارجيته إلى دمشق لعقد اجتماع مع الثاني؛ جرى كل ذلك على الرغم من الاحتجاجات الشكلية- وصفت بالشديدة- من طرف واشنطن على أن الإمارات يمكن أن تخرق العقوبات المفروضة على سورية، وادّعوا أن التقارب مع دمشق هدفه إبعاد النظام السوري عن أذرع الأخطبوط الإيراني، وشدّدوا على اهتمامهم بعلاقات جيدة مع كل دول المنطقة ضمن إطار سياسةٍ أسموها ’’صفر توترات‘‘ ستنتهجها الإمارات، وقام محمد بن زايد الأسبوع الماضي بزيارة نادرة إلى تركيا التقى خلالها الرئيس التركي، ووقّعا معاً سلسلة اتفاقات للتعاون التجاري والاقتصادية والدبلوماسي.

    فما هو سبب هذه الانعطافة بالموقف السعودي- الإماراتي حيال طهران واستراتيجية ’’صفر توترات‘‘؟ وأين الائتلاف الإقليمي- المزعوم- المعادي لإيران، والذي تبلور خلال ولاية ترامب ووصل ذروته مع توقيع “اتفاقات أبراهام” الخيانية، وشمل هذا الائتلاف إسرائيل والبحرين والإمارات والسعودية فضلاً عن عُمان؟ هل تفكك هذا الائتلاف ولم يعد موجوداً نظرياً وعملياً؟.. يبدو أنه تبخر على حد وصف مصدر إماراتي قائلاً: ’’صحيح أنه جرت تدريبات ومناورات عسكرية مشتركة مؤخراً، هدفها أيضاً نقل رسالة إلى طهران، لكن الائتلاف الذي تبلور بتشجيع من ترامب وإدارته، والذي شكّل حلف دفاع إقليمي غير رسمي مدعوماً من الأميركيين بين إسرائيل ودول الخليج التي تتخوف من حصول نظام إيران المتشدد على سلاح نووي، هذا الحلف تبخر‘‘، وأن التبرير الخليجي للانعطافة في العلاقات الدبلوماسية مع إيران هو “أجندة بايدن في الشرق الأوسط ومسألة التهديد الإيراني بالنسبة لدول المنطقة، لكن إسرائيل- حسب رأيه – على الرغم من التغييرات في السلطة، فإنها ظلت مع ’بينت‘ وفية لالتزاماتها حيال دول الخليج”، و”المشكلة أن بايدن وإدارته فعلوا كل شيء لتمييع إنجازات ترامب في كل ما له علاقة بالتطبيع مع إسرائيل ودق إسفين في التحالف الدفاعي الإقليمي الذي جرى التوصل إليه بين دول المنطقة في مواجهة التهديد الإيراني، ومنها تجميد اتفاق بيع طائرات أف-35 للإمارات، ومعارضة واشنطن وفرضها ڤيتو على بيع سلاح لها” و”لم نُفاجَأ بخطوة السعودية في الدفع بحوار إيجابي مع طهران في ضوء علاقة عدم احترام بايدن وإدارته للملك السعودي والمملكة عموماً”، و”إن الانسحاب الأميركي المتسرع من أفغانستان لم يساعد على الإحساس بالثقة لدى حلفاء الولايات المتحدة، والطريقة التي تتصرف بها حيال السودان وردة فعلها على الانقلاب الذي قام به عبد الفتاح البرهان زاد في مخاوف الدول التي وقّعت اتفاقات أبراهام، وبينها السودان، من أنه في لحظة الحقيقة لن يقدّم الرئيس الأميركي وإدارته الدعم والتأييد المطلوبين” كما أن “إدارة بايدن ترتكب كل الأخطاء الممكنة التي يمكن أن تدفع السودان إلى عدم استقرار سياسي، وأيضاً إلى انسحاب الخرطوم من اتفاقات أبراهام”!.

    هذه تبريرات رأس حربة الرجعية العربية الخليجية للكثير من الانعطافات الخيانية التي يقومون بها ضد أمتنا، ويتناسون أنه حين امتعضت أميركا من انقلاب السودان لم تتصل مباشرة بالسودان، بل قام وزير الخارجية الأمريكي واتصل بالكيان الصهيوني- حليفهم المشترك- ليطلب منها أن تتدخل للإفراج عن “حمدوك”!، الأمر الذي يفّرغ جميع ما ادعوّا  به حول مواجهة المخاطر من معناها لتُثبت البيئة العربية قدرة خلّاقة على العودة إلى الوراء والتخلف أكثر!.

    ومع ما آلت إليه أحوال الساسة العرب بإشراف صهيوني- أميركي وغربي كامل وبتفاهم مع روسيا والصين، تبقى عيونهم مفتوحة على ڤيينا وما يمكن أن تفضي إليها الأسابيع القادمة، إذ لن يتراجع طاقم إدارة بايدن عن هرولته لإبرام صفقة الاتفاقية النووية مع إيران ورفع العقوبات المالية والنفطية عنها، ولن يُقِـرّ هذا الطاقم بأن هوس بايدن وحاجته إلى إحياء هذه الاتفاقية ساهما في تشديد قبضة ما يسمى الحرس الثوري في سورية والعراق ولبنان كما عناد طهران بمحادثاتها مع السعودية ضد تسهيل إنهاء حرب اليمن، وأن رجال بايدن المعنيون بملف إيران يتصرفون بدفاعية إزاء أي إشارة لربط المفاوضات النووية في ڤيينا بالسلوك الإقليمي الإيراني الخطير ويدفنون رؤوسهم في الرمال خوفاً من تأثير الإقرار بهذا السلوك الإقليمي لها، وأن طهران تُبّرِع في الاستفادة من قرار تغييب محاسبتها من قِبَل الغرب مجتمعاً في الوقت الذي تعمّق فيه تحالفها مع الشرق خاصة روسيا والصين والهند، وهي واثقة بأن تداعيات المواقف العربية ازاء محطّات نفوذها ستكون لمصلحتها ومصلحة شركائها المحليين!.

    ومع حالة الهلع من “أوميكرون” في بحر البحث عن مخرج من هذه الجائحة الكبرى، لا يمكن الرهان على سياسات عربية رهينة ومرتهنة للخارج، فدون أداء عربي مشترك بالحد الأدنى وبالتضاد مع الهيمنة الأميركية- الصهيونية- الإيرانية الراهنة ستبقى منطقتنا تدور في الحلقة المرسومة لها إمبريالياً.

    وعلى المستوى الوطني سيكون من المحبط والمعيب حقاً أن يصل السوريون خاليي الوفاض إلى لحظة ترنح وسقوط نظام الأسد، الآتية بلا ريب، ولن يكون لهم أي عذر لعدم تهيئة بديل قادر على تسيير أمور سورية بسلاسة بعد كل ذلك النضال الممتد لعقود، وإنجاز المهمة يحتاج إلى عمل دؤوب ومستمر لخلق شبكات تربط اللاجئين وتعيد توجيههم نحو السياسة، التي لا يمكن أن تُخلق قضية عامة من دونها أو خارجها، بحيث يصبح هؤلاء اللاجئون شعبَ سورية الذي يقيم خارجها، غير المنقطع عنها في طموحاته وعمله، ومن خلال حراك هذه الشبكات وحيويتها، ستبرز الطبقة أو الفئة السياسية الجديدة، الأكثر كفاءة من كل ما سبقها، وتقود العمل والكفاح الذي يجب أن ينتهي إلى سورية وفي داخلهـا.

التعليقات مغلقة.