الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مراجعات فى الأمن والسياسة

عبد الله السناوي *

لم تكن السياسة من شواغل «حسنى مبارك»، والأرجح أن «أنور السادات» فضله على قيادات عسكرية أخرى من الذين لعبوا أدواراً بارزة فى «حرب أكتوبر» أكثر مما لعب هو من أدوار، لأنه الأقل طموحاً والأكثر انضباطاً.

وعى «مبارك» أكثر من غيره، الحقائق الرئيسية فى اختياره المفاجئ منتصف سبعينيات القرن الماضي نائباً للرئيس، والذى يعني- بحقائق السلطة فى مصر- ترشيحه مستقبلاً للرئاسة.

ساعده حذره الطبيعي فى تجنب مطبات الصدام فى كواليس الرئاسة وما حولها، أو احتمالات الخروج من دائرتها.

حرص بصورة مبالغ فيها على أن يذكر كلما أتيحت الفرصة أمامه أنه «تلميذ فى مدرسة السادات».

وفرت مثل تلك التصرفات- التي كانت محلاً للتشكيك فى قدراته، أو أهليته للرئاسة مستقبلاً- أسباباً إضافية للبقاء لخمس سنوات نائباً للرئيس حتى قالت الأقدار كلمتها فى حادث المنصة الدموي (1981) الذى صعد بعده لرئاسة الدولة.

لم يكن «مبارك» معنياً بالشأن السياسي الوطني العام أثناء دراسته العسكرية عكس أغلب أبناء دفعته، الذين انضموا إلى تنظيم «الضباط الأحرار»، أو تداخلوا بصورة أو أخرى فى مسار الحوادث الكبرى التي اعترضت مصر أثناء حرب فلسطين وما بعدها من تداعيات وانقلابات وثورة «يوليو» وما بعدها من تحولات ومعارك.

فاجأت السلطة «مبارك» بحقائقها وصراعاتها دون خبرة تسنده على مواجهة تقلباتها.

باستثناء المنازعة على صلاحيات الإشراف فى رئاسة الجمهورية مع «منصور حسن» وزير الإعلام والثقافة المقرب من الرئيس «السادات»، بعدما أسند إليه منصب وزير رئاسة الجمهورية، فإن سجل «مبارك» يكاد يخلو من أية منازعات معروفة لها أية خطورة على مستقبله السياسي.

كان «منصور حسن» أكثر انفتاحاً على العمل السياسي وأكثر تأهيلاً لمقتضياته.

رشحه رئيس مجلس الشعب «سيد مرعي» للرئيس «السادات» كوجه شاب يمكن التعويل عليه فى ضخ دماء جديدة داخل شرايين حزب السلطة الجديد، «الحزب الوطني الديمقراطي»، الذى تأسس على أنقاض حزب سلطة سابق، «حزب مصر العربي الاشتراكي»، وجرت هرولة من القديم إلى الجديد حيث يقف رئيس الجمهورية.

كان ذلك الصعود داعياً لقلق «مبارك».

حسب رواية استمعت لها من «منصور حسن» فى منزله المطل على نيل جزيرة «الزمالك»، حين كان متاحاً أن نلتقى من وقت لآخر للحديث فى الشأن العام واستجلاء ما كان يحدث من نزاعات على السلطة فى عهد «السادات»، فإنه حاول أن يخفف من أحمال القلق وفوائض التوتر .

عندما تعرَض «مبارك» لإصابة فى إحدى ساقيه استدعت بقاءه فى منزله ترددت فى جنبات الرئاسة أنه مرض سياسي، زاره «منصور حسن» مؤكداً له أنه لا يسعى للاستيلاء على صلاحياته فى رئاسة الجمهورية.

بطبيعته وغريزته كان «مبارك» يدرك أصول اللعبة جيداً، لا يناقش الرئيس، وينفذ حرفياً ما يصدر إليه من تعليمات.

ساعدته صفاته وطبائعه فى تجاوز مطبات «انتفاضة الخبز» (1977) و«كامب ديفيد» (1978) و«اعتقالات سبتمبر» (1981)، فهو فى صف الرئيس دائماً، قد تكون له وجهات نظر أخرى لكنه لم يفصح عنها على أي صورة.

توارى السياسي فيه- دائماً- لصالح «الإداري».

صاحبته الصورة نفسها إلى مقعد الرجل الأول وحكمت تصرفاته على مدى ثلاثة عقود متأثراً بخبرته العملية التي أكدت ان صفة «الإداري» مكنته من البقاء فى السلطة العليا، بينما خرج منها منافسه القوي «منصور حسن»، الأقرب إلى «السادات»، حين بدا أنه مختلف مع بعض قراراته وتوجهاته فى ملفات حساسة أدت إلى حادث «المنصة» الدامية فى أكتوبر (1981).

صفة «الحذر» لازمت قصة صعوده واستقرت فى طريقة إدارته للشؤون العامة.

الحذر من صفات رجال الأمن المدربين، فالخطر قد يأتي من مأمنه، لكنه- فى مجال مدح خصاله- «غير مؤذٍ»، كما كان يقول بعض وزرائه المقربين.

كان مستعداً لغض الطرف، وحتى التسامح، مع أعتى خصومه إذا لم يكن اختلافه السياسي يمثل تهديداً مباشراً لأمن نظامه، غير أنه لم يكن يتردد فى ممارسة أشد أنواع القسوة إذا كان هناك مثل هذا التهديد.

التردد الذى تجده فى حقول السياسة وملفاتها، لم تكن تجد مثيله، أو رديفه فى مسائل الأمن.

كانت الصفات الشخصية، التي ساعدت «مبارك» على الصعود والبقاء فى الحكم، جوهر معضلته الكبرى حيث أفضى غلبة التفكير الأمني إلى تغييب السياسة و«جمود» النظام السياسي وتآكل شرعيته، كأنه نحر متواصل تحت قوائمه.

لم يكن يميل إلى «فكرة التغيير» إذا ما توافرت أسبابها ودواعيها، ويأخذ على «السادات» منهجه فى «الصدمات السياسية».

قرر أن يكون «ساداتياً» بلا أساليبه، وبلا أدنى استعداد سياسي، أو شبه سياسي، لمراجعة سياساته من عند الجذور والتعرف على الأسباب الجوهرية خارج نطاق الأمن، التي أفضت إلى المنصة.

لم يكن معجباً بالرجل الذى عينه نائباً للرئيس، لكنه التزم بصميم توجهاته الاستراتيجية والاجتماعية التي أرساها.

كان «السادات» مناوراً سياسياً فيما كان هو إدارياً أبقى على ما يعتقد أنه مستقر مادام يحفظ أمن النظام.

اصطدمت فكرة التغيير- عنده- بـ«ركائز الحماية الاجتماعية»، التي تعبر عنها طبقات جديدة نشأت وانتعشت وتوسعت مع «الانفتاح الاقتصادي»، وكما اصطدمت- أيضاً- بـ«ركائز الحماية الاستراتيجية»، التي تجسدها علاقات خاصة توصف بأنها غير قابلة للمراجعة مع الولايات المتحدة.

مضى فى دعم عناصر الحماية الاجتماعية والاستراتيجية بأكثر مما مضى سلفه، والتحالف مع الولايات المتحدة مضى بعيداً إلى نهاية الملعب الإقليمي، متجنباً أي توترات، مهما كانت الأسباب والدواعي والأزمات والحروب!

لم يكن مستعداً لأى صدام محسوب، أو أية مراجعة للسياسات المتبعة وفق المصالح العليا للبلاد حتى لا تكون العلاقات الأمريكية تسليما بما يفرض عليه.

استولت عليه فكرة أن الصدام يؤدى إلى الحرب، وأن مصر ليس بوسعها أن تتحدى الولايات المتحدة.

كانت تلك الفكرة من موروثات العصر الذى سبقه.

غيبت فكرة الرئيس «الإداري» السياسة والإدارة معاً، فلا إدارة بلا أفق سياسي يحكمها ولا أمن إذا لم تتوطد قواعد الشرعية بالرضا العام.

التلازم بين صفتي «الإداري» و«الأمني» أكدت عنده مبكراً وطوال سنوات حكمه عدم التهاون فى مسألة المنازعة على السلطة، وأنه يتعين على معاونيه تنفيذ التعليمات كأنهم «سكرتارية» فى مكتبه، لا شركاء فى السلطة يتمتعون بصلاحيات دستورية.

كان ذلك من عوامل النحر فى النظام السياسي الذى ترأسه.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: بوست 180

التعليقات مغلقة.