الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

رحلة العقلانية العربية: من أهل الرأي إلى الابن رشدية

معقل زهور عدي *

في فجرها الخجول حاولت العقلانية العربية أن تشق طريقها نحو الوجود مع أهل الرأي الذين بدؤوا في استخدام الأدوات المنطقية في حقل الفقه في بداية القرن الثاني للهجرة ( أبو حنيفة النعمان ), وكانت حجتهم في ذلك أن رواية الحديث موضع ظن طالما أن تناقلها قد جرى شفهياً, وعبر فترة زمنية مديدة, وأن ما هو موضع ظن لا يمكن أن يستند إليه بصورة قاطعة يقينية, بالتالي لا بد من إعمال الأدوات العقلية المنطقية من أجل استنباط الأحكام الفقهية اعتماداً على ما هو يقيني, وهو القرآن الكريم . مع تعديل لم يكن منه بد في الاستناد إلى بعض الأحاديث, وما تناقله الناس في المدينة عن جيل الصحابة من وصف لهيئات العبادات والطقوس ( الشعائر ) الإسلامية التي عرفت عن الرسول (ص) من صلاة وصيام وحج وما إلى ذلك.

لم يهمل تيار أهل الرأي الحديث, لكنه جمع بينه وبين الأدوات العقلية, بالتالي فالحديث مصدر للأحكام إن وافق مدلولات الآيات القرآنية وانسجم مع مقاصدها, وإن لم يتناقض مع حديث آخر, أو يحمل عوامل ضعف في روايته.

ومال أهل الرأي إلى إعمال القياس في الأحكام حين واجهتهم مشكلات زمنهم المتغير, وانفتاح الإسلام على بلدان واسعة وشعوب متعددة وثقافات مختلفة وعلاقات اقتصادية ومالية لم يواجهها الإسلام في مكة والمدينة في عهد الرسول (ص).

عمل أهل الرأي ضمن التيار العريض للإسلام الذي تحول لاحقاً إلى ما سمي بأهل السنة والجماعة, وظل تيارهم معتَرفاً به باستمرار, فلم توجه له سهام الاتهام بالخروج عن الإسلام كما وجهت للمذاهب الأخرى, وإنما كان موضع نقد يخف تارة ويشتد تارة أخرى.

لكن نهاية القرن الثاني للهجرة وبداية القرن الثالث حملت معها تخامداً تدريجياً لذلك التيار.

ولذلك أسبابه التي سنأتي على ذكرها لاحقاً, وشيئاً فشيئاً استسلم تيار أهل الرأي لتيار أهل الحديث الذي واجه بالنقد مسألة إعمال العقل في (النص) والنص هنا ليس القرآن وإنما الحديث حسب ظاهره, ونظراً لنهوض ” علم الحديث ” نهضة عملاقة على يد البخاري ثم تلميذه مسلم وباقي أئمة الحديث كالترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد بن حنبل, فقد ظهر وكأن ” علم الحديث ” قد أغلق على أهل الرأي حجتهم حين وضع أمامهم آلاف الأحاديث المنتخبة بعناية فائقة والتي تُغني عن التفكير والقياس والاستدلال.

لقد تمكن أئمة الحديث من انتزاع اعتراف واسع بصحة الأحاديث التي جمعوها وقاموا بتدقيقها بجهود ضخمة وفق أدوات منهجية لا يمكن الاستهانة بها رغم أن تلك الأدوات لم تكن كاملة قط , وهكذا قدم ” علم الحديث ” نفسه بديلا عن رأي أهل الرأي , فحيثما هناك نص “حديث ” فلا مبرر للرأي . وفي الواقع العملي فقد كان ذلك يعني نزع سلاح أهل الرأي, وتحييدهم.

وبذلك ماتت أول بذرة للعقلانية العربية نشأت داخل التيار الإسلامي العريض . ونأتي على البذرة الثانية وهي المعتزلة.

فبعد ترجمة كتب الفلاسفة اليونان للعربية في بداية العصر العباسي, وكثير من الأفكار والفلسفات من فارس والهند وغيرها, واطلاع الناس على ثقافات متنوعة, وأديان مثل الزرادشتية والمانوية, أصبح من الضروري الدفاع عن الإسلام بأسلحة العصر وثقافة العصر, وإلا فالإسلام سيقف عاجزاً أمام تلك التيارات الهادرة الآتية من كل حدب وصوب, مما يهدد في اجتياحه وهدم أسسه وقواعده.

من هنا نهضت جماعة إسلامية استفادت من الفلسفة اليونانية لبناء أسس عقلانية للمفاهيم الإسلامية, ولكونها استخدمت سلاح المنطق والفكر, فقد اتصفت بالنخبوية, وواجهت الفكر الإسلامي التقليدي الذي استطاع تجنيد الشارع ضدها, ولاحقاً تجنيد السلطة السياسية أيضاً, ورغم أن تجربتها كانت أعمق وأوسع من تجربة أهل الرأي, لكنها لم تستطع الاستمرار في الحياة في حين أن المجتمع العربي كان بحاجة ماسة للحماسة الدينية لصد الهجمات الخارجية بعد أن ضعفت الدولة العباسية.

وبينما يترافق التطور في الفكر مع الحضارة والشعور بالسلام, فإن الشعور بالخطر وعسكرة المجتمع تترافق دائماً مع العودة للمسلمات القديمة, والحماس الديني العاطفي . ومحاربة الأفكار الجديدة التي لا تتفق مع معتقدات الجمهور.

صحيح أن المعتزلة لم يتم تكفيرهم بصورة قطعية, لكنهم كثيراً ما نظر إليهم الفكر الإسلامي التقليدي بوصفهم انحرافاً عن جادة الإسلام, وإقحاماً للإسلام النقي الأصلي بميدان لا ناقة له فيه ولا جمل, فما حاجة الإسلام للتفلسف؟

ومثل تلك النظرة التي تبدو بريئة ومقنعة, كانت تعني في الواقع حجب الإسلام عن الفلسفة بصورةٍ تامة, بل ووضعه على عداءٍ معها, وذلك كان كافياً لجيش لا حدود له من رجال الدين المحافظين الذين أغلقوا على الإسلام كل النوافذ, مما أسفر عن سيطرة البدع والخرافات والأساطير, وأفسح المجال واسعاً أمام كل الأفكار والممارسات غير العقلانية التي شوهت الإسلام وأغرقت روحه الأصلية.

لكن الإسلام في الأندلس التي بلغت ذروة الحضارة العربية بدون شك, تمكن من الإفلات من ذلك السجن الذي سُجن فيه في المشرق على يد عملاق الفكر الإسلامي وذروة مفكريه وأعني به « ابن رشد ».

ولأول مرة طرح المفكر الفيلسوف والعالم المسلم « ابن رشد » فكرة أن لا لزوم للنظر للفلسفة كعدوة للدين بل يمكن النظر إليها كصديق للدين يعمل معه من أجل الوصول للحقيقة والسعادة البشرية.

والأمر الهام والخطير هنا أن « ابن رشد » فتح أمام الفكر الاسلامي النافذة التي أغلقها عليه الإسلام المشرقي, ليصبح بالإمكان فحص الأفكار التي خالطت الإسلام حتى اعتُبرت جزءاً منه, ونفيها عنه, وكنس البدع والخرافات والأفكار التي تشوه الاسلام, وذلك حين يستعيد المسلم سلاح العقل, ويستخدمه كما أمره الله, وهو أعظم وأغلى ما منحه الله للإنسان.

ومن سوء حظ « ابن رشد » أنه قام بإنجازه الباهر في الوقت الذي كانت شمس الحضارة الأندلسية تميل للمغيب, فقد عاش بعد أن سقطت طليطلة بيد الأسبان, وتهددت قرطبة بالسقوط لولا تدخل المرابطين والموحدين, وفي زمانه بدأ يدب لدى الأندلسيين الإحساس بالخوف من فقدان الوطن, ومع ذلك الإحساس بدأ الجمهور يميل إلى المسلمات القديمة ولا يرغب في الأفكار الجديدة, وكان الموحدون أكثر تشدداً, ولذلك أحّرقت كتب « ابن رشد » واضطهد, وبعد وفاته بحوالي 40 سنة سقطت مدينته قرطبة بيد الأسبان وسقط معها كل أمل في حياة أفكاره التنويرية.

ما من شك في أن أي تطور أصيل وحقيقي للفكر الاسلامي اليوم لابد أن يبدأ من حيث انتهى « ابن رشد » الذي يُمثل العقلانية العربية في ذروتها التاريخية التي لم تتمكن من تجاوزها بل والوصول إليها حتى الآن.

لماذا نحن بحاجة إلى « ابن رشد »؟

بين المثقفين العرب وبين الجمهور أزمة تواصل وتأثير, وقد أثبت التاريخ الحديث, خصوصاً في العقدين الأخيرين, أن العقل الجمعي العربي مازال بعيداً عن تفكير نخبه الثقافية, وأنه مازال مرتهناً للفكر التقليدي الموروث منذ نهاية العصر العباسي في نسخته الأشد جموداً وتخلفاً.

والمشكلة التي تواجهنا تتمثل في حقيقة أن السياسة المعاصرة لم يعد بالإمكان صناعتها بواسطة النخب بمعزل عن الجمهور, وأن الحياة الاجتماعية والثقافية- الروحية للجمهور لم يعد بالإمكان فصلها عن السياسة, فحضور الجمهور في السياسة أصبح طاغيا, والمعلومات التي كانت تحتكرها النخب ودوائر ضيقة أصبحت في متناول الجميع.

ويوضح ما سبق كيف أن المجتمع العربي أصبح يعاني من انفصام في القيم والمفاهيم, فأعماق المجتمع مازالت متمسكة بهياكل فكرية جامدة لا تصلح للعصر . بينما تعوم على سطحه نخب ثقافية ومجموعات شبابية لا تستطيع تقبل الهياكل التقليدية البالية لكنها لا تمتلك ما تقدمه للمجتمع لينتقل نحو أطر فكرية مختلفة, وعند كل منعطف, تنفصل الجماهير عن نخبها, وتلتحق بمن يمثل عقلها الجمعي الراسخ.

باختصار, نحن بحاجة أن تتواضع النخب الثقافية قليلاً, وتحاول الدخول لعمق العقل الجمعي العربي, وتُحدِثه باللغة التي يفهمها هو وليس بلغتها التي تشعره بالغربة ولا تترك لديه أي أثر.

بعبارة أخرى ينبغي علينا الاعتراف بواقع العقل الجمعي العربي ومكانه الحقيقي, وأن نبدأ معه- وليس فوقه- رحلة الصعود نحو العصر.

وما لم نُحرز في ذلك تقدماً, فستبقى المنجزات الثقافية لنخبنا جُزُراً معزولة, وأجساماً طافية على السطح.

في عصر « ابن رشد », كانت السياسة تُصنع بصورة مستقلة- وليست معزولة- عن الجمهور, من أجل ذلك لم يكن « ابن رشد » معنياً بما نسميه اليوم بالعقل الجمعي كثيراً, فهو يتوجه للنخبة من العلماء والفقهاء, ويحاذر من عرض آرائه الفلسفية على الجمهور, وبينما كان همه كما يقول المفكر « محمد عابد الجابري »: ” أن يسود الانسجام والتوافق بين الدين والفلسفة لكي يسود الوئام والتناغم في الحياة الاجتماعية والسياسية “، فقد ميز بوضوح بين النخب وبين الجمهور, فأما النخب من العلماء والفقهاء فقد خلص إلى أن دراستهم للفلسفة اليونانية ليست مستحبة فقط ولكنها واجبة شرعاً, وهو بذلك لا يبدي رأيه كمفكر حر ولكن يقول بفتواه كقاضٍ وعالم بالشرع وقد كان بالفعل عالماً بالشرع ويشغل منصب قاضي قضاة قرطبة, لكن فتواه تلك مقتصرة على النخب أما الجمهور فقد أفتى بإبعاده عن الفلسفة واستشهد بعبارة وضعها أفلاطون على باب أكاديميته تقول ” من لم يكن مهندساً فلا يدخلن علينا ” أي أنه من لم يكن يعرف الرياضيات فليس مؤهلاً لمعرفة الفلسفة, فاشترط « ابن رشد » في من يريد تعلم الفلسفة ” العدالة الشرعية والفضيلة العلمية والخلقية ” من جهة و” ذكاء الفطرة ” من جهة ثانية وقد كانت الفلسفة تبتدئ بالرياضيات ثم الطبيعيات ثم الإلهيات.

وليس « ابن رشد » ظاهرة مخالفة لعصره فجميع المدارس الفكرية كانت تُصنع ضمن أطر اجتماعية ضيقة, بعضها يتصل بالحكم كحالة الإمام الغزالي الذي كان يشرف على المدرسة النظامية ببغداد برعاية مباشرة من الوزير السلجوقي نظام الملك, وبعضها يتم بغرف مغلقة ثم تجد طريقها نحو الجمهور بأقنية سرية وأقنعة تقيها من بطش السلطة أو من اتهام الفرق الأخرى والتكفير.

وفي الحالتين فإن الجمهور كان بعيداً عن معترك الصراعات الفكرية سوى أنه كان يُستدعى كسلاح بيد السلطة حيناً, وبيد التيارات الفكرية الأكثر محافظة حيناً آخر.

وفي عصرنا الراهن, فقد تغيرت شروط الحياة الاجتماعية- السياسية تغيراً كبيراً, فالجمهور لم يعد موضوعاً للحكام والسياسيين, بل تحول إلى ذات فاعلة في السياسة والحكم, ولم يعد جمهوراً جاهلاً لا يعرف سوى الزراعة والحرف اليدوية, بل أصبح متعلماً يدرس اثني عشر عاماً بالحد الأدنى ( التعليم الثانوي ) وأصبحت المعلومة في متناول يده حتى لو كان في الريف المنعزل.

كما أن مشاركته السياسية تزداد باضطراد مع انتشار الفكر الديمقراطي في العالم, فلم يعد ممكناً تجاهل دوره السياسي المتعاظم.

وفي ظروف كهذه أصبح الجمهور بحاجة لسماع ما تقوله النخب الفكرية المختلفة, وأصبح لديه القدرة على مقارنة تلك الأفكار ببعضها, ولم يعد من مبرر للحذر منه والخوف من سوء الفهم أو أن يتزعزع إيمانه وتلتبس عليه الأفكار.

فإذا كان ذلك الجمهور مازال أسيراً لهياكل فكرية قديمة ومهترئة فالمسؤولية تقع على عاتق النخب الثقافية التي لم تعرف كيف تجد طريقها إلى عقله وتفكيره بل لم تحاول أن تشق ذلك الطريق واستبدلت ذلك بغزل شرانق من حرير حول نفسها تعزلها عن الجمهور لتعيش عالمها الخاص بها دون متاعب.

وثمن ذلك كان أن بقي العقل الجمعي العربي على حاله كما يبقى ماء البحيرات المغلقة مئات السنين دون أن يتغير.

وحين احتاج الأمر في السياسة لدخول الجماهير للتغيير فقد دخلت بالمفاهيم القديمة الموروثة فأصبح من السهل على أي جاهل يدّعي التدين أخذها لطريقه.

أجل أيها العالم الجليل والفيلسوف « ابن رشد », فنحن بحاجة اليوم لفكرٍ كفكرك لا يعادي الفلسفة ولا التدين بل يجعل من العقلانية طريقاً نحو إعادة النظر في الفكر الإسلامي وتجديده لنستطيع به وبكل ما أنجزه الفكر الإنساني أن نشق الطريق نحو المستقبل.

المصدر: ميدل ايست اونلاين

التعليقات مغلقة.