الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

اللاعقلانية في السياسة العربية في فكر ياسين الحافظ

معقل زهور عدي

كتب ياسين الحافظ في كتابه ” اللاعقلانية في السياسة العربية ” في المقدمة: “خلال السنوات الثلاث أو الأربع الماضية, عانينا صدمات بددت كل التفاؤل الذي خيم على المشرق العربي مع أواخر الستينات, أشد هذه الصدمات إيلاما جاءت عندما تجلى بوضوح أن الكتلة الأساسية من الأنتلجنسيا المصرية تقف من موقع يميني ومتأخر بالطبع مع عملية نزع الناصرية, ومع السياسة المصرية الراهنة, الصدمة الثانية التي لا تقل شدة وايلاما عن الأولى جاءت عندما رأينا ملايين من الشعب العربي في مصر تخرج, وكأنها فقدت ذاكرتها السياسية لاستقبال نيكسون, رمز أعتى امبريالية ما برحت منذ عشرين عاما تنزل بالأمة العربية أشد الاذلال وأعتى الأذى “, يتابع ياسين “…. في السياسات العربية نحن لسنا إزاء أخطاء فحسب بل إزاء تأخر, لسنا إزاء سياسات يمينية فقط بل سياسات لاعقلانية…. إزاء تأخر البنية السياسية العربية بجماعها ( يقصد حاكمين ومحكومين ) إنها سياسات قرية في عالم مدن “.

يشير ياسين الحافظ هنا إلى زيارة نيكسون لمصر عام 1974 واستقباله من قبل السادات, وتنظيم استقبال شعبي واسع له في عربة مكشوفة بحيث أدهش ذلك الاستقبال غير المتوقع نيكسون نفسه, كما تسبب بخيبة وإحباط لدى تيارات اليسار العربي في مصر وخارجها .

بالطبع لسنا هنا في نطاق مناقشة الزيارة أو الاستقبال وفهم أسبابه أو تبريرها, المهم هو التقاط ياسين لفكرة ثمينة ملخصها أن  العقل الجمعي العربي مازال متخلفا, وهو في تخلفه وبسبب ذلك التخلف يصبح بإمكان الحاكم سحبه إلى موقف لا يتصف بأي قدر من العقلانية, إنه عقل جمعي يشبه عقل الطفل , أو كما قال ياسين عقل القروي الساذج في عالم المدينة.

مشكلتنا ليست فقط مع الأنظمة إنها أكبر وأعمق من ذلك , هي مع النخب وهي مع الشعوب أيضا في وعيها المتأخر , في لاعقلانيتها الطفولية .

ما هو مطلوب إذن مواجهة تلك المشكلة بحجمها الحقيقي وعدم الهروب منها, فاللاعقلانية ليست فقط في السياسات الرسمية, إنها أيضا وبدرجة أكثر خطورة في العقل الجمعي العربي.

مشكلة النخب السياسية العربية خاصة الثورية اليسارية أنها أهملت أو تجاهلت مسألة النفاذ للعقل الجمعي العربي وسحبه من حالته المتأخرة نحو عقلانية ملائمة للعصر, لقد عملت تلك النخب بموازاة ذلك العقل, وخاضت غمار السياسة في حقول محددة ومختارة معتقدة أن على الجمهور اللحاق بها, وهكذا تفاجأت حين رأت الجمهور ذات يوم في واد آخر.

هل مازالت المشكلة راهنة بعد 47 عاماً مما كتب ياسين الحافظ  ؟ بالتأكيد.

بل لقد ازدادت وضوحاً اليوم بعد سيادة تيار الإسلام السياسي بتشكيلاته المتعددة ساحة الفكر والممارسة وتراجع التيارات الأخرى بحيث أصبحت أضعف في التأثير على الجمهور من أي وقت.

في مكان آخر يقول ياسين بصيغة أكثر تجريداً الآتي: ” السياسة الثورية ( والسياسة القومية في البلدان التابعة والمتأخرة تصب في سياق ثوري ) إما أن تكون عقلانية تامة أو أن تتحول إلى خبال شيزوفريني تارة أو لفظية ثورية تارة أخرى, وهي باعتبارها سياسة  قلب الواقع, سياسة فعل فيه , مضطرة إلى مواجهة عقبات, اختيار احتمالات, اهتبال فرص, وهذا فرض عليها أقصى درجات الواقعية التي لا يداخلها وهم, ولا أحكام قيمية , خلافا للسياسة المحافظة أو التطورية التي لا تتطلب أكثر من  تشغيل استمرارية  الواقع القائم, ومتابعة حركته المنسابة, وبالتالي فإن الأولى تتطلب عقلانية أكثر ممن الثانية, لأنها ملزمة بتحقيق تركيبة بين الواقعي والثوري: الواقعية – الثورية .”

توضح الفقرة السابقة ليس فقط ضرورة العقلانية في السياسة الثورية ولكن أيضا المدلول السياسي للعقلانية وأعني بذلك الواقعية السياسية تلك الواقعية التي هي الوسيلة الوحيدة لمنع النزعة الثورية من الجموح نحو الرومانسية وتحولها إلى لفظية ثورية, والتي تتيح أيضاً للنزعة الثورية الفعل في الواقع وتغييره بدلا عن مجرد نقده.

العقلانية في السياسة لا تعني عدم الوقوع في الأخطاء لكنها تعني عدم الوقوع في الأخطاء الفادحة والقدرة على معالجة الخطأ بسرعة وبأقل الخسائر, مثل تلك العقلانية لا يمكن أن توجد عند النخب السياسية فقط بينما يرزح المجتمع تحت وطأة الايديولوجيات المتأخرة التي تحمل مفاهيم اسطورية يغيب فيها العقل مثلما يغيب حضور العصر.

يفسر لنا هذا لماذا كانت الاشتراكية في البلدان المتخلفة متخلفة أيضاً, لماذا سقطت المفاهيم الديمقراطية بسهولة وتحول النظام الاشتراكي للديكتاتورية وعبادة الفرد.

يرى ياسين الحافظ أن عبد الناصر قد فتح بداية للعقلانية العربية فهو قد ناضل لنقل السياسة العربية من الرغبات والمطلقات والمسبق إلى الاحساس بالزمن والصيرورة إلى اعتبار الوقائع والتراكم, ما لم يقله ياسين أن عبد الناصر في عقلانيته أيضاً نقل السياسة من مرجعياتها الضيقة إلى مرجعياتها الأوسع في النظر لمصلحة الأمة . والعقلانية هنا لا تظهر فقط كتجليات لطريقة التفكير لكنها تظهر بوصفها فهما صحيحا لوظيفة السلطة باعتبارها ممثلة لمصالح الأمة.

يصف ’ياسين‘ الانتكاسة التي حصلت في السياسة العربية بكونها تراجعت لتكون “مبنية على الشعور, على الرغبة, على المعتقد, وبالتالي على اللاعقلانية”.

هذا الانتكاس المرير يعني أننا لا نستطيع مراكمة التجربة التاريخية, فما هو السبب؟

ربما يكمن السبب في تلك الظاهرة التي لاحظها ’ياسين‘ بمرارة كبيرة, كيف استقبلت جموع واسعة من الشعب في مصر نيكسون وهو كما قال يمثل أعتى الإمبرياليات وأكثرها أذى لبلادنا.

أي كون السياسة العربية تعيش بمعزل عن المجتمع إلى حد كبير سواء كانت سياسة الحاكم أم سياسة المعارضة.

بالتالي لإنتاج سياسة عقلانية لا بد من التفكير بنقل العقلانية للعقل الجمعي العربي, أن تذهب النخب للمجتمع بدل أن تذهب للسلطة تاركة المجتمع ليسير خلفها في حين أنه يزداد انفصالا عنها في الواقع .

التعليقات مغلقة.