الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أيلول.. والدرس الافغاني

     كم من السنوات مرت ومعها شهر أيلول الذي تحتفظ ذاكرتنا الجمعية عربياً بالعديد من الكوارث والنكبات المرتبطة به؛ بدءاً من جريمة الانفصال المشؤوم، وفك عرى وحدة 1958، ثم مجازر الأردن ضد الفلسطينيين وإيقاف هدر الدم الفلسطيني في أيلول الأسود ثم رحيل جمال عبد الناصر عام 1970، وبدء عصر الردة والتراجع عن مشروع النهوض القومي الناصري وتوقيع اتفاق كامب ديفيد في نفس الشهر عام 1978، وصولاً لقمة فاس الثانية بالمغرب في 06 أيلول عام 1982 وما نتج عنه من اعتراف ضمني بالكيان الصهيوني، وبعد عشرة أيام منه حصلت مجازر صبرا وشاتيلا على يد جيش الكيان الصهيوني وميليشيا الكتائب الطائفية وبمباركة جيش النظام السوري والتي حصدت أرواح آلاف الأبرياء من الفلسطينيين واللبنانيين معاً، ثم اتفاقية أوسلو المشؤومة في 13 أيلول 1993 وأوسلو الثانية التي تسمى أحياناً اتفاقية طابا في 28 أيلول عام 1995 والموقعتين مع الصهاينة في واشنطن، وصولاً لتدنيس المسجد الأقصى من قبل المجرم شارون عام 2000؛ ثم تفجيرات منهاتن وتدمير برجي التجارة العالميين في 11 أيلول 2001 والتي تمخضت عن احتلال كلاً من أفغانستان وبعده العراق وإعادتهما للعصر الحجري بأيدي إرهابيي العصر الحديث اليانكي البشع وحلفائه.

     إن جميع هذه الدروس لم تترك- للأسف- الأثر المطلوب لمواجهة أعداء الأمة دفعاً للعمل العربي المشترك والجاد على طريق وحدة الأمة باعتبارها رافعة للتقدم العربي.

     ربما كان الحدث الأبرز في شهر أيلول المنصرم ما حصل في افغانستان عشية الانسحاب الأمريكي منها، من سيطرة طالبان على المشهد الأفغاني رغم إنفاق الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 978 مليار دولار، ما بين 2001 إلى 2019، منها 88.32 مليار دولار لبناء الجيش الأفغاني، و36 مليار لبرامج الحوكمة والتنمية حسب تقديرات جامعة براون، فبدى وكأن الجيش الافغاني جيش من ورق، وليست برامج الحوكمة والتنمية إلا مجرد حبر على ورق.

      وكان لافتاً للانتباه كيف كانت نظرتنا نحن السوريين إلى هذا الحدث، فما إن أعلنت الحركة سيطرتها على أفغانستان، حتى انقسمنا- كما العادة عند أغلب الأحداث- إلى معسكرين: معسكر مؤيد لطالبان ويرى في سيطرتها وصعودها من جديد انتصاراً للإسلام على الإمبراطورية الأمريكية، ومعسكر آخر يرى أن صعود طالبان هو نكوص عن كل مبادئ الديمقراطية والتعددية والعودة إلى عصور ما قبل التاريخ.

     وكعادتنا نحن السوريين نبّدع في وضع الثنائيات لنضربها ببعضها بعضاً، فإذا أردت أن تضرب مصطلحاً ما أو فكرة ما فالأفضل أن تضعها في ثنائية مع الاسلام؛ إسلام/علمانية، إسلام/ديمقراطية وهناك من يضيف ثنائيات أخرى مثل إسلام/عروبة رغم عدم صوابية هذه الثنائيات.

     فالفريق السوري المؤيد لطالبان الذي لا يرى سيطرة طالبان هزيمة لأمريكا وأتباعها وحسب بل يراها انتصاراً للإسلام على العلمانية أو حتى مشروع الدولة المدنية، وهو يعّتبر أن السوريين على الطرف الآخر المناهض لطالبان هم من أزلام أمريكا، عدا أنهم ضد الإسلام وضد أن يكون له دولة تحكم باسمه وتطبق مبادئ الشريعة.

     أما الفريق الآخر الذي يرى سيطرة طالبان على أفغانستان أنها انتصار للفكر الراديكالي الذي احتضن القاعدة لسنوات عدة، هذا الفكر الراديكالي ينتمي لنفس المدرسة التي نشأت منها داعش والنصرة وأمثالهما والتي حرفت مسار ثورتنا السورية وكانت أحد أسباب تخوف الآخرين منها، وبالتالي فالمؤيدون لطالبان هم بشكل أو بآخر ينتمون إلى ذلك الفكر أو قريبون منه بدرجة أو أخرى.

     هذا الانقسام الحاد وتلك المواقف التي ظهرت على شكل مهاترات قاسية على صفحات التواصل الاجتماعي، كانت تناقش الوضع الأفغاني لكن عينها على الوضع السوري والعربي بصفة عامة؛ علماً أن قرار الانسحاب والمفاوضات حوله تمت في عهد الرئيس الأمريكي السابق ترامب لأغراض وأهداف أمريكية جيوسياسية ولوجستية وقد نفذت على يد جو بايدن وحسب.

     والحقيقة أننا بهذه الحالة من الاستقطاب والتمترس لن ننتج سورية الحرة الديمقراطية التي تتسع لجميع أبنائها، وبهذا النوع من المهاترات لن نبني سوريتنا التي نريد، فبناؤها يحتاج الكثير من الحوار العقلاني والجاد الذي يبحث عن الحقيقة وليس عن تخطئة الآخرين.

     من جهة أخرى فالأوطان تبنى بسواعد أبنائها الغيورين، الذين يتعلمون من تجارب الدول الأخرى، وليس الذين يعملون كأُجراء عند تلك الدول، فالحكومات المتعددة التي وضعتها أمريكا ومنذ حكومة كرزاي وحتى حكومة اشرف غني، كانت حكومات ينخرها الفساد ولم تستطع وخلال عشرين سنة من وجودها تحت الرعاية الأمريكية أن تنتج جيشاً وطنياً يصلح للدفاع عن البلاد، بقدر ما يصلح لتنفيذ ما يُطلب منه وبغطاء ودعم أمريكي، وإلا فما معنى جيش يتم الإنفاق عليه وتدريبه لمدة عشرين سنة ثم يسقط في أقل من أسبوع، ليست حكومة أفغانستان هي المثال الوحيد على الخدم أو الأجراء عند الدول الاخرى فالأمثلة أكثر من أن ترد هنا في مقال صغير، وليس ائتلافنا السوري أو قسد ببعيدين عن تلك الأمثلة.

     يبقى الأمل أن نتعلم جميعاً من الدرس الأفغاني ودروس عديدة في أمريكا اللاتينية، بأن المشغلين كثيراً ما يتغنوا بالديمقراطية والعدالة والمساواة ودولة القانون، وقد يستغنوا عن خدمات الأجراء في أية لحظة حتى ولو أنفقوا عليهم المليارات، وأن حلفاء أمريكا هم أكثر من يدفع الأثمان؛ فمن طعن دولة شريكة له في حلف الناتو في صفقة الغواصات سيدوسهم عند أي طارئ.

التعليقات مغلقة.