الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

القضية الكردية هي أيضاً… قضية عربية(1)

 (نشـرة داخليـة خاصة بالأعضــاء)

 

الاتحاد الاشتراكـي العربـي                                                                                   حرية * اشتراكية * وحدة

         في سوريــة

(2/3)

 لقد كان هناك في حزب البعث تيار أساسي يتطلع من منظور إنساني وديمقراطي تقدمي، في مقولاته القومية وفي العمل لبناء وحدة الأمة ودولة هذه الأمة، وفي التعامل مع القوميات الأخرى ومع حركات تحرر الشعوب في العالم. وذلك التيار لم يكن يقف عند الاعتزاز بأمجاد الماضي ودعوات الرجعة، وكان ينكر الشوفينية ويرفض العصبيات والتعصب والتمايز الفئوي وكل أشكال الظلم والاستغلال، وكان يتطلع من منظور مستقبلي إلى بناء دولة قومية ديمقراطية حديثة. وأذكر بهذا المعرض واقعة شهدّتها في صيف عام 1957 عندما شاركتُ في وفد بعثي حزبي لمؤتمر عُقِد في أثينا للحركات الوطنية في دول البحر الأبيض المتوسط، تحت شعار التحرر الوطني ومكافحة الاستعمار، وكان الموضوع الأول في جدول أعماله التعاطف مع الثورة الجزائرية. ولقد دخل على ذلك المؤتمر نفر من القوميين الأكراد، راحوا يطرحون في كواليسه على الوفود قضيتهم ويوزعون عليها منشوراتهم وينددون بما يعانون من قهر واضطهاد في عدد من الأقطار. ولم تعّرض تلك القضية في الجلسات الرسمية للمؤتمر واستُبْعِد طارحوها، إلا أن الجواب عليها من الجانب العربي، جاء في الكلمة التي ألقاها الأستاذ ميشيل عفلق الأمين العام لحزب البعث ومنظّره ذلك الحين، إذ وقف يتحدث عن المعاناة التي مرت بها ومازالت تمر الأمة العربية، من ظروف الظلم والاستعمار، وما فرض عليها من تجزئة وتخلف واستغلال وعما ترسخ في وجدان شعبها بحكم تلك المعاناة، من معان إنسانية عميقة ومن تطلع للتحرر الكلي للبشر. وكان في أقواله ما يعني أن حركة التحرر العربي، حين تتطلع من منظور قومي للمستقبل، وحين تحرص على حقها في الوجود كأمة وعلى تحررها الكامل ووحدتها، فهي بالضرورة لا يمكنها إلا أن تنظر من منظورها الإنساني ذاته لبقية الشعوب والقوميات المظلومة والمقهورة، فأمتنا العربية التي عانت التجزئة والاضطهاد والاستعمار طويلاً لا يمكن لها وهي تنهض اليوم مناضلة لتحقيق أهدافها، أن تقبل لنفسها اضطهاد قوميات أخرى تعيش في جنباتها أو على تخومها، وهي إذ تنشُد حريتها فإنها تريدها في الوقت ذاته لشعوب العالم جميعها.

ولقد كان لتلك الكلمة وقع طيب على المؤتمرين، لما أسبغته من جو إنساني وروحي على المسائل، فصفقوا لها طويلاً، وتوقف الجدال والنقاش، وكأنها جاءت الرد والجواب.

تلك كانت مبادئ ومقولات، ومن بعدها جاءت ممارسات وضعت القائلين بها على المحك، وقامت لهم أنظمة وحكومات، ووقعت مفارقات وتغيرات. ولكن مؤلف الكتاب ظل على تلك المبادئ والأفكار، وظل على الولاء لذلك التيار الإنساني الديمقراطي في أحكامه على الأمور، ولم يبدلها مع تبدل المواقف والأزمان. وأنا مع المؤلف من حيث منطلقه المبدئي الرئيسي، وإن اختلفت معه حول عدد من التفاصيل. فقد أخذت عليه مثلاً العودة إلى مقولة ” الرسالة الخالدة ” في شعار البعث ليدلل على التمسك بالمبادئ والعهود، ورجوت أن يكون ذلك الشعار قد جرى على لسانه بحكم العادة كما هو الأمر بالنسبة لكثيرين غيره، ومن غير تمحيص، فمثل تلك المقولة ” الشعار ” عن الرسالة الخاصة للأمة وخلودها، تتنافى كل المنافاة مع النزعة الديمقراطية والإنسانية التي أخذنا بها، وتردُنا إلى المنظورات القومية الشوفينية والامبراطورية، وتدفع للتمييز والتمايز وتبرر لنزعات السيطرة والشمولية والتسلط، وهي بذات الصورة التي تعّطى بها صفة الإطلاق والمطلق للأمة تعطيها بالنتيجة أيضاً لحزبها ولزعامة الفرد. إلا أن ما جاء عليه المؤلف في كتابه، يدحض مثل هذا التوجه ويرفضه. وهو لا يقف عند الدعوة للإخاء العربي الكردي، بل ويؤكد على الانتماء الوطني وعلى المواطنية الحرة لكل من الشعبين، ويرفض الدعوات العنصرية والتمايزات الفئوية.

لعلني خرجت عن موضوعات الكتاب ومقاصده المباشرة عندما أخذت هذا المنحى في الربط بينها وبين منظوراتنا القومية. ولكن أوليس المنحى الذي نتخذه في تصورنا لقضيتنا العربية ووحدة أمتنا، والنهج الذي تسير عليه قوانا السياسية وأنظمة الحكم في معظم البلدان العربية، في معالجة مسائلنا الوطنية، وما تقوم عليه العلاقات بين الحاكمين والمحكومين في أقطارنا، هي التي تحدد من حيث الواقع والنتيجة طريقة فهمنا للقوميات الأخرى وتعاملنا معها؟

فالقومية عندما تأخذ بها النزعة للشوفينية، لا تعود تنظر إلا بهذا المقياس للقوميات الأخرى، أي من خلال عصبيتها وتعصبها. والدولة القومية التي يقوم نظام حكمها على الاستغلال والتمايز الطبقي أو الفئوي، هي التي تنحو نحو استغلال الشعوب الأخرى واضطهادها. والنظم التي تقوم على التسلط والاستبداد، فهي بمقدار ما تضطهد شعبها ذاته وتفرض عليه هيمنة سلطاتها وتستخف بإراداته الوطنية الحرة، تضطهد أيضاً الأقليات القومية أو الشعوب القومية الأخرى المقيمة على أرضها أو على تخومها وتعمل لبسط السيطرة عليها وتستخف بحقها في تقرير المصير.

إن هناك نقطة مبدئية أعتقد أنني ملتقٍ فيها مع مؤلف هذا الكتاب، من حيث منظورنا القومي الديمقراطي بل والاشتراكي أيضاً. فبمقدار ما نقترب من المفهوم الديمقراطي للوطن والمواطنة والسيادة الحرة للشعب في بناء نظمنا الوطنية وفي إنجاز مهمات تحقيق وحدتنا العربية، فإن مسألة الجماعات القومية غير العربية المقيمة في هذه المنطقة أو تلك من وطننا العربي، والتي لم تندمج بنا في الماضي وتحرص على وجودها القومي الخاص وخصوصيتها، لا بدّ أن تطرح نفسها علينا من خلال ذات المعايير الديمقراطية والإنسانية التي توجه مسارنا، ولا بدّ أن نقف منها الموقف الذي أردنا في تحررنا القومي، أي أن تكون لها إرادتها الوطنية الحرة وحقها في تقرير المصير.

كذلك، بمقدار ما نقترب من التطبيق الاشتراكي كصيغة في البناء الاجتماعي والاقتصادي لدولنا الوطنية أو لدولتنا القومية الموحدة، وكموجه للعلاقات بين القوى المنتجة ووسائل الإنتاج، والعلاقات بين المواطنين والدولة الناظمة لتلك العلاقات، أي بمقدار ما ينزل حكم الطبقة المستغلة والفئة المتسلطة وحكم الأسرة والعشيرة والفرد، ليقوم حكم الشعب والمصلحة العامة للشعب بالاحتكام لحاجاته الأساسية، أي بمقدار ما نقترب من المساواة بين المواطنين وتذويب الفوارق بين الطبقات ومن العدالة الاجتماعية، فإننا نقترب إلى صيغة سليمة وعادلة في العلاقات بين الشعوب والقوميات، وفي التقريب فيما بينها وإزالة أسباب تصادم مصالحها وأهدافها.

فلا بدّ أن تكون مثل هذه التوجهات واضحة، لا في مقولات أحزابنا القومية العربية والشعارات التي ترفعها فحسب، وإنما في ممارساتها والمواقف الفعلية التي تتخذها لكي نصل إلى إزالة أسباب التصادم، وإلى إيجاد صيغة للتعاون بل والتحالف الاستراتيجي أيضاً بين حركة التحرر العربي الوحدوية، وبين الحركة الوطنية التحررية الكردية، ولكي نصل من ذلك إلى الحلول المرحلية المناسبة للوجود القومي الكردي داخل الحدود المتعارف عليها دولياً لقطرٍ عربي واحد بالتحديد أو لأكثر من قطر، ومن خلال منظور مستقبلي له ملامحه العامة الواضحة، بحيث لا يعترض سبيل برنامجنا القومي الوحدوي، ولا يقطع طريق التطلعات القومية الكردية، والتي لا تقف عند حدودنا العربية بل تتعداها في كثير إلى دول مجاورة وقوميات مختلفة. ومثل هذا التوجه يمكن أن يقدم حلاً أو طريقاً لحل، لا للمسألة الكردية في العراق وحده بل وللمطالب الوطنية والاستقلالية لمجموعات قومية أخرى كما هي الحالة بالنسبة لسكان جنوبي السودان. فالحركة القومية العربية حين تتركز مقوماتها الديمقراطية والإنسانية والتقدمية، وحين تسير كما سارت أيام النهوض الناصري في نهج قاطع ضد الامبريالية وضد كل أشكال السيطرة أو الهيمنة لشعب على غيره، ولدولة أو كتلة دول على غيرها، فإنها لا تقبل لنفسها ولا تريد بأية حال أن تفرض سيطرتها ولا الدمج والاندماج، على أي شعب آخر أو أية أقلية قومية تعيش في حيثياتها.

لقد أردت أن نبدأ بأنفسنا كعرب وأن نحاسب ونطالب أحزابنا ونظمنا، قبل أن نحاسب ونطالب الأطراف القومية المقابلة، وأن نراجع مواقفنا وممارساتنا بل وأفكارنا أيضاً بهذا الشأن، وأن نحدد أهدافنا القومية والمسار الذي نتبعه لتحقيقها، قبل أن نحاصر الطرف الآخر ونُسائله ولعلنا بذلك نستطيع تضييق أسباب الافتراق والخلاف ونقطع طريق التناحر والاقتتال، ولعل الوضوح الذي نعطيه لاتجاهنا القومي يساعده على أن يكون هو أيضاً موحداً في اتجاهه وواضحاً. ولكن من المطلوب أيضاً من الطرف الآخر أن يراجع مساره وأن يحدد هو أيضاً أهدافه والمراحل التي يمكن أن يمر بها للوصول إليها والوسائل التي يتبعها لبلوغها. وإذا ما أشرنا إلى الأخطاء التي وقعت أو تقع فيها نظم أو قوى قومية عربية، فإن الحركات الوطنية الكردية وقعت في أخطاء وانقسامات أفدح، وسارت في مسالك متعثرة، ومرت بتجارب قاتلة، وخضع الكثير منها لقيادات عشائرية متعصبة ومتخلفة، وذهب بعضها إلى التفتيش عن مساندات له وتحالفات مع قوى خارجية معادية لحركات التحرر الوطني للشعوب، فلقد ذهبت ” الثورة ” البرازانية مثلاً في العراق خلال السبعينات، إلى أن تمد ارتباطاتها إلى عملاء الإمبريالية لتستمد منها العون. وكثيراً ما سخرت أطراف منها نفسها، ومن غير بصيرة سياسية أو منظور استراتيجي ومستقبلي، في لعبة الصراعات الإقليمية، وخلافات النظم المتجاورة أو منازعاتها على الحدود. فهي قد لعبت دوراً في النزاع الإيراني العراقي أثناء حكم الشاه البهلوي، وبعضها مازال مستمراً بعده، وتقلبت بين هذا المعسكر أو ذاك، كما لعبت ومازال بعض منها يلعب أدواراً تابعة، أو يوظف قواه في خدمة الصراع المستحكم بين نظامي سورية والعراق، ذلك الصراع الذي لم يكن يوماً في مصلحة القضية القومية العربية، بل ولا في مصلحة الحركة الوطنية الكردية، هذا إذا ما نظرنا للأمور حسب المعايير القومية التي سبق ذكرها، أو من منظور استراتيجي هادف.

لعله كان مفروضاً من خلال ما يقدمه أمامنا هذا الكتاب، أن لا نصل إلى مثل هذا التعثر والضياع، فالتجربة التاريخية الماضية والروابط العديدة المشتركة بين العرب والأكراد، والتي أدت إلى أن الكثير من الأكراد استعربوا أو هم أخذوا مواقعهم الثقافية والاجتماعية والسياسية في عدد من الأقطار العربية كمواطنين سوريين أو مصريين أو عراقيين أو لبنانيين في غير لبّس (وهذا الكتاب يقدم أمامنا العديد من الأمثلة على ذلك)، أو هم عندما لاحقهم الظلم والاضطهاد في مواطنهم الأصلية في تركيا بخاصة وفي إيران، وجدوا ملاذاً كريماً لهم في الأقطار العربية المُتاخمة، كما أدت بالمقابل إلى أن مجموعات من العرب استكردت هي أيضاً في حقبات تاريخية مضت واندمجت بالأكراد في مواطنهم ومعاقلهم، استيطاناً وثقافة وانتماءً.. كان من المفروض أن تقرِّب ولا تُباعد، وأن تقدم لحركتي التحرر العربية والكردية قواسم مشتركة عديدة للاتفاق والتحالف، وأن تصل بهما إلى منظور مشترك لبلوغ الأهداف القومية لكل منهما. لقد كان مفروضاً أن يلقى العرب من الحركة الوطنية الكردية مساندة لهم في معاركهم التحريرية ضد الامبريالية والصهيونية (وهذا ما حدث أحياناً بالفعل) وأن يرى الوطنيون الأكراد في الوحدة العربية وفي قيام دولة عربية موحدة قوية، سنداً لقضيتهم ومساعداً على تحقيق تطلعاتهم القومية وكيانهم الوطني، لا أن يروا فيها اعتراضاً على وجودهم القومي أو تهديداً له، خاصة وأن الطلائع القومية الأكثر تقدماً لدى الطرفين، أصبحت تحمل في مبادئها وشعاراتها والأهداف التي تعلنها، رايات التحرر الوطني ومحاربة الامبريالية والصهيونية، بل وترفع معاً شعارات الديمقراطية والاشتراكية والوقوف في صف حركة التحرر العالمي.

هذا ما كان من المفروض، وهذا هو المعقول والمطلوب، ولكن الأمور لم تجرِ مع الأسف على هذا المنوال، ليحل الحذر المتبادل والتشكيك بالنيات المبيتة محل التفاهم، وليقوم تنازع واقتتال في هذا الموقع أو ذاك، وتقوم حركات تمرد وعصيانات وثورات..

وهنا يأتي بالضرورة مثال العراق ليفرض نفسه، والمسألة الكردية تمس القطر العراقي بالتحديد وإن كانت تعني الأمة العربية كلها من خلال أن العراق جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، وكذلك من خلال منظورها الإنساني والتحرري. فمنذ أكثر من نصف قرن والمسألة الكردية جرح نازف في الجسم الوطني للعراق ويمتد به إلى ما حوله. وهو قد استنزف الشعبين العراقي العربي والكردي في غير طائل إلا إشغال العراق عن ممارسة دوره القومي والتحرري الصحيح. بل قد كان لذلك الصراع الدامي على أرض العراق دور مباشر في إثارة هذه الحرب المستعرة، والتي لا تعرف حتى الآن نهاية منظورة بين العراق وإيران. فمن خلال ذلك الصراع وبسببه ذهبت ” الثورة البرازانية ” إلى التحالف مع الشيطان، حين راحت تتواطأ مع النظام الإيراني وتستمد العون من النظام الشاهنشاهي المعادي للقضية العربية والمتواطئ بدوره مع الامبريالية الأمريكية والصهيونية، قبيل انهيار ذلك الشاه ونظامه. وهذا ما أدى بالحركة الوطنية الكردية إلى إسكات حركات تمردها في إيران نفسها وإسكات مطالبها الوطنية عندها، مقابل ما أخذت تستمده من عون وتسليح إيرانيين وما أعطي لها من حرية التنقل والحركة. كما أدى ذلك من جانب آخر إلى أن يقدم العراق ما قدمه من تنازلات للنظام الامبراطوري، حول الأرض والحدود والمياه، حسب اتفاقية الجزائر بين الجانبين، ليصل الحكم العراقي من ذلك إلى إخماد الثورة البرازانية التي أصبحت تهدد كيانه، ثم نشبت بعد ذلك الحرب العراقية الإيرانية عندما أخذ العراق يعمل لاسترجاع حقوقه بعد سقوط حكم الشاه وقيام الدولة الخمينية. وامتدت تلك الحرب ثم امتدت ليكتوي الجميع بنارها ودمارها.

بل ومثل ذلك، وفي مرحلة هامة من مراحل النهوض القومي لحركة التحرر العربي في الخمسينات والستينات، المرحلة التي تهدف تأميم قناة السويس وقيام الجمهورية العربية المتحدة وثورة 14 تموز في العراق (التي توجهت بالعراق أول ما توجهت نحو الوحدة ثم ارتد به نظام عبد الكريم قاسم عنها)، وشهدت حركة 8 شباط في العراق وحركة 8 آذار في سورية ومحادثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق في نيسان عام 63، وما رافق ذلك أو أعقبه من أحداث ومتغيرات.. في تلك المرحلة التاريخية الهامة، التي أتيحت فيها لحركة التحرر العربي فرص كبرى لتحقيق إنجازات متقدمة على طريق بناء وحدتها القومية، وما كان لها بأية حال أن تقبل فوات هذه الفرصة أو اعتراض سبيلها، في هذه المرحلة بالذات طُرِحت القضية القومية الكردية في العراق ضمن معترضة أو اعتراض، وجاءت التهديدات الكردية بعد ذلك والتمردات والعصيانات لتعطي تبريرات إضافية أو لتسّتخدم كمبررات، سواء من قبل نظام عبد الكريم قاسم الذي وقف ضد تيار الوحدة العربية المتدافع بعد أن جاء إلى الثورة وإلى الحكم باسم تلك الوحدة، أو من قِبَل ” بعث 8 شباط ” الذي قام بثورته على ” قاسم العراق ” باسم إسقاط انفصاليته واستئناف مسيرة الوحدة مع عبد الناصر، ثم جاء في مباحثات الوحدة الثلاثية يطالب بالتمهل والتأجيل لأن لدى العراق معوقات ومشكلات داخلية لا بد من تسويتها أولاً، وكانت المسألة الكردية من أولى تلك المعوقات والمشكلات أو التبريرات. بل وبعد ذلك، وبعد أن انفرط عقد مسيرة الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق، وضاعت فرصة تاريخية على الأمة أو ضُيعت، ظلت هناك فرصة لقيام وحدة تعويضية بين سورية والعراق، بعد أن انفرد حزب البعث بالحكم فيهما وأصبح القطران تحت قيادة حزب قومي واحد. وهنا أيضاً جاءت الظروف القطرية ” الخاصة ” والإشكالات الإقليمية، وجاءت تلك المعترضة ذاتها تعترض الطريق، فلم يقم بين سورية والعراق وحدة ولا اتحاد، لا ولم يستطع النظامان البعثيان فيهما أن يرفعا الحواجز الجمركية بينهما، كل ما استطاعا عمله كمظهر من مظاهر ” النضال المشترك ” والوحدة، ذلك الجحفل العسكري الذي أرسلته الحكومة السورية تحت قيادة ” الأخ فهد “* والذي سمي بفوج اليرموك، ليقاتل إلى جانب الجيش العراقي ضد العصيان الكردي في شمالي العراق.

إنني ما أردت التذكير بتلك التجارب المتعثرة إلا لأدلل على مقدار ما جرّته تلك الصراعات والتعارضات من خسائر على الشعبين وعلى القضيتين القوميتين معاً، العربية والكردية، وما جاء ذلك، إلا من خلال قصور كان لدى القيادات السياسية التي أمسكت بحركة تلك الصراعات من الطرفين، سواءٌ من حيث حسها التاريخي أو من حيث منظورها القومي والاستراتيجي، وتقديمها ما هو آني وعارض، على ما هو استراتيجي ومستقبلي.

ولكن يبدو أن الأمور في الآونة الأخيرة، ومنذ عام بالتحديد حتى اليوم، بدأت تأخذ طريقاً أكثر استقامة وجدوى، فيما يتعلق بحل مسائل الخلاف والصراع بين حكومة بغداد والحركة الوطنية الكردية. فما كان وعداً في شباط عام 63 ثم ” اتفاقاً للسلام ” في 11 آذار عام 1970، ثم تجدد قراراً وإقراراً بالاستقلال الإداري أو الحكم الذاتي في آذار عام 75، من قبل الحكومات البعثية المتوالية في العراق، قد أخذ طريقه إلى التطبيق أخيراً بعد تعديلات أدخلت عليه تنصف الأكراد أكثر وتجعل من ” كركوك ” مدينة للإخاء القومي وللمصالحة القومية، ولتقوم بوادر وفاق وطني عراقي- كردي، جاءت عبر الحوار الطويل بين الأطراف المعنية ومن خلال التركيز على المصالح المشتركة والأهداف المتوافقة، والأمل بأن يكون في هذا الاتفاق إنهاء لمرحلة طالت من الصراعات اللامجدية، وأن يكون بداية لمرحلة جديدة من العمل الوطني المشترك والتعاون القومي المشترك أيضاً. ولكن أومّا كان مثل هذا الوفاق ممكناً منذ البداية. ثم أومّا كان من الممكن، لو وضحت التوجهات القومية لدى الطرفين، تفادي كل تلك الاقتتالات المنّهكة وكل ذلك الدمار والتعطيل للقضيتين معاً، بل وتفادي هذه الحرب الدائرة بين إيران والعراق، والتي تتهدد وجودهما الوطني بالتمزق، كما تتهدد المشرق العربي كله، لتوضع القضية الكردية في العراق أخيراً على طريق حلها وتذليل ما وقف في وجه الحل من اعتراضات أو شكوك واحتياطات من هذا الطرف أو ذاك؟ والذي ساعد على ذلك لم يكن تغيراً في الحكم والحكام وإنما في المناخ الشعبي الوطني العام الذي أخذ يفرض نفسه لدى الطرفين كإرادة شعبية تدفع على هذا الطريق، والذي يجد مصيره من جانب آخر في صعود قيادات وطنية أكثر عقلانية وأكثر تجربة وتبصراً، على رأس الحركة الوطنية الكردستانية في العراق وإيران معاً أخذت تعطي للعمل القومي الكردي وللوحدة الوطنية الكردية هنا وهناك، صيغاً أكثر تقدماً وأكثر إفادة من التجارب الماضية وأكثر تلاؤماً مع معطيات الواقع والممكن، بل إن حركة (الكومالا) اليسارية التي تنهض من جديد وتنظم ثوارها الفتيان، حاملة معها ذكريات جمهوريتها التي قُتلت عام 46 في مهاباد، تبدو اليوم أكثر بصيرة وتصميماً، وتأخذ مكانها إلى جانب حزب قاسملو ” الديمقراطي ” في تنسيق ووحدة نضالية، دفعاً على طريق دعم نهج الوفاق الوطني العربي الكردي في العراق، وإرساء قواعد ” الحكم الذاتي “، على اعتباره إنجازاً هو في مصلحة التحرر الوطني الكردي والحركة القومية الكردية عموماً.

ولكن إلى أين يمكن أن يمضي مثل هذا التصميم الوطني الكردي وما الذي يمكن أن يعترض سبيله من داخله أي من داخل الجماعات الكردية الأخرى أو ما يمكن أن يعترضه من خارجه وحوله في هذه الظروف الضاغطة والصعبة، فذلك ما ستُجيب عليه حركة الأحداث القادمة، وذلك ما سيُجيب عليه المستقبل القريب، وما نحن إلا شهود ومشاهدون.

ولعلي أخذت جانب التفاؤل، في ظروف تراكمت فيها الخيبات، ولكنه الرهان على اليقظة الوطنية للشعوب يبقى رصيداً، والأمل بعقلانية الرجال المثابرين، ممن عركتهم التجارب واستخلصوا عبرها…

لقد وجدتني هنا بحاجة إلى وقفة تأمل ومراجعة لبعض الذكريات، لئلا أمضي في تعقيباتي على القضية المطروحة، بعيداً عن مقاصد الكاتب ومخطط الكتاب فأحمّلهُما ما لا يحّملان وأقول عنهما ما لا يقولان. ولقد ذهب المؤلف مذاهب شتى في بحثه، ليعرض أمامنا المقومات الفعلية للقومية الكردية، بما في ذلك الوطن والشعب، والتاريخ والثقافة، وذهب من القضية الكردية إلى كل ما يجاورها ويتعامل معها وتفرع منه أو يفرع عنها. وأعطى آراء وأصدر أحكاماً، ولست معه دائماً في كل ما ذهب إليه. لست معه مثلاً في أن يطلق على الحكم العثماني، في البلاد العربية والإسلامية، اسم الاستعمار، فمثل هذه التسمية غير مطابقة للواقع التاريخي ولطبيعة العلاقات التي كانت قائمة، هذا إذا ما أخذنا بالمعنى الدقيق لكلمة الاستعمار أو الكولونيالية. ولست معه أيضاً في المقولات التي أطلقها على شعوب ومذاهب وأديان بشكل تعميمي، كتلك الأحكام التي أطلقها بشكل معمّم على اليهودية واليهود، وكذلك في الوقوف عند خصائص الشعوب وطباعها وكأنها شيء ثابت، ولم يشر بما فيه الكفاية لما يحكمها ويحكم تشكلها وتغيرها من عوامل عديدة وخاضعة للتغير أيضاً. وأستميحه بذلك عذراً إذا ما وقفت عند الجانب السياسي من المسألة واسترسلت فيه وحده. ولكنني ما أظن أن المؤلف قد أرادني على التقديم لكتابه، إلا من حيث أنه يعرف اهتمامي بهذه القضية كمسألة سياسية ولما يعرفه من مواقفي السابقة تجاهها. وأنا لستُ مختصاً بعلوم الأتنولوجيا وتاريخ الأقوام لأخوض فيما جاء عليه بحثه منها، فما كان لي أن آخذ بالكتاب إلا من حيث مقصد كاتبه منه وهدفه. فهو أولاً وفي النهاية يطرح علينا مسألة سياسية. ويعرض قضية شعب هو الشعب الكردي، ويعرض مقومات وجوده القومي، ومطالبه وأهدافه. وهذه قضية نحن في تعامل معها كقوميين عرب، ونحن من جانب في تعاطف معها، كما نحن من جانب آخر وفي مواقع قومية كنا في تنازع معها وفي صراع.

وإذا كان المؤلف لم يضعنا أمام تصور مستقبلي للمسألة، ولا أقام طريقاً واضحة لحل معضلاتها، وإيجاد سبيل للتعامل معها، فإنه يحاول أن يستشف طريقاً، وأراد أن يفتح باباً للحوار. وكأنه يريدنا أن نبحث معه، وإن بالكلمة الملتزمة والتطلع بالآمال، سبيلاً لطرح تصور واقتراح حلول، لقضية هي ذاتها، وفي الظروف السياسية الراهنة للمنطقة والعالم، قضية صعبة ومعقدة وتتداخل فيها أطراف عديدة. إنها مسألة لم تبدأ من العراق ولا تنتهي عند العراق، ولا هي بين الأكراد والعرب وحدهم، بل هي تمتد للعلاقات مع دول وشعوب غيرهما، وخاصة تركيا وإيران، وهي ترتطم بالنظام الدولي القائم ذاته وتوازناته الاستراتيجية واستقطاباته الكبرى وتحالفاته.

ولقد جلست إلى مؤلف الكتاب نتحاور حول موضوع كتابه وأفكاره وما يواجهه الموقف السياسي تجاهها من صعوبات، وذهبنا معاً إلى استرجاع الحوادث والمواقف الماضية وذكرياتنا عنها، ووجدتني مع الذكريات وهي تسحبني إلى بعيد، وإلى الإحساسات الأولى التي تولدت في نفسي، عن وجود شعب كردي ثم مسألة قومية كردية، وكيف وجدتني بعد ذلك أتعامل معها أمام أحداث معينة، وأتخذ مواقفي منها. وأرادني المؤلف أن أسرد بعضاً منها في تقديمي لعلها تضيف شيئاً من الوضوح للتوجهات التي نحن بصددها الآن.

إن أول تجربة مررت بها، ووضعتني أمام وجود الأكراد كشعب آخر على أرض لقطر عربي، كانت مع نهايات ربيع 1941 وبدايات صيفه القائظ في العراق. عندما ذهبتُ ألتحق مع نفر من الطلبة العرب في جامعة دمشق بثورة رشيد عالي الكيلاني التي قامت ضد الاحتلال البريطاني في العراق إبان الحرب العالمية الثانية. وضمت شلتنا لبنانياً وفلسطينياً وأردنياً وأنا السوري، وكانت آمال التحرر العربي والوحدة ملء قلوبنا وأفكارنا. وعندما دُمّرت تلك الثورة وتقدم الجيش الانكليزي يقتحم ضواحي بغداد، وجدنا أنفسنا مضطرين لمغادرة تلك العاصمة العربية هروباً إلى الشمال بعد أن قيل لنا أن المقاومة الوطنية تتجمع في كركوك. وأعّطيت لنا سيارة صغيرة من تركات شركة النفط التي استولت عليها الثورة، ومضينا بها إلى كركوك حيث لم نجد من تجمع ولا مقاومة، إلا الغربة واستنكار المسؤولين عن إدارة المدينة لوجودنا فيها، ويمّمنا مع الصباح الباكر شطر الموصل متسللين بسيارتنا في دروب غير سلطانية. ولم يكن بيننا، وكلنا غير عراقي، من يعرف المنطقة أو له دراية بخارطة الدروب فيها. وانحرفنا كثيراً نحو الشمال بدلاً من أن نتجه غرباً، وتوغلنا من غير أن ندري في منطقة ” أربيل ” وبين الزابين الكبير والصغير. ووجدنا أنفسنا بعد سويعات من هذا التوغل التائه وقد تغيرت علينا كل معالم الأرض والسكان وملامح القرى المتناثرة وأزياء البشر وسُّحنهم، وأحسسنا أننا أضعنا المسالك ولسنا على طريق توصل إلى الموصل. وأخذنا نستوقف من نصادفهم على الطريق، ووقفنا نُسائل من يعملون في الحقول. وكانوا يجيبون على أسئلتنا ويتحادثون فيما بينهم بلغة لا نفهمها ولا نعرفها. وما كنا نستطيع أن نُفهِمُهم مقاصدنا عن طريق الإشارات وبتغيير اللهجة واللغات، إلا بعد لأي كبير، وأكثرهم كان يبتعد عنا في استغراب وكأننا قادمون من فلكٍ آخر. وضاعت عنا معلوماتنا الجغرافية وحس المسافات، وحسبنا لوهلة أننا أصبحنا في الأراضي الإيرانية. وأخيراً وقفنا عند امرأة عجوز تعمل منفردة في إحدى الحقول، واستطعنا أن نفّهمها أننا غرباء وقد ضللنا الطريق. فأشارت بيدها إلى بعيد حيث أبصرنا على إحدى الهضاب بيت يرفرف عليه علم ومن خلفه بضعة بيوت قروية وقباب. وكان مخفراً للشرطة العراقية ووجدنا فيه ضابطاً صغيراً استقبلنا بلسان عربي فصيح وأحسن استقبالنا وعرفنا منه أننا مازلنا على أرضٍ عراقية وإنما في منطقة يقطنها قومٌ من الأكراد. وأبى إلا أن يرافقنا رجل من عناصره حتى الموصل كدليل. وفي الموصل التي وصلناها مع الغروب وجدنا أنفسنا شأناً آخر ولقينا حنو العروبة علينا بأكثر مما لو كنا عائدين إلى أهلنا وديارنا، وكذلك كان وداعنا. ومضت الأيام وبقيت في الذهن صورة راسخة أن في شمالي العراق شعباً آخر غير شعب بغداد والموصل، ولكن قضية ذلك الشعب لم تتبلور حينها في الذهن بأكثر من ذلك.

وتتوارد إلى الذهن ذكريات أحداث جرت قبل ذلك التاريخ وبعده، وتتعلق بحملات الاضطهاد والإبادة الجماعية التي قامت بها السلطات التركية ضد الوطنيين الأكراد منذ قيام دولة تركيا في عهد أتاتورك حتى اليوم، وما أدت إليه تلك الحملات من نزوح سكاني عن كردستان في تركيا ومن لجوء أفواج أثر أفواج من الأكراد إلى سورية ولبنان. وتطالِعنا كتب التاريخ وقصص الأحلاف والمعاهدات، أن معاهدات سعد آباد الموقعة في 8 تموز عام 1937 بين تركيا والعراق وإيران وأفغانستان، والتي كانت نسخة بدائية عن معاهدة حلف بغداد فيما بعد، قد جاءت تقول بأن من أهدافها الرئيسية ” تنسيق الجهود بين تلك الدول لمكافحة الأعمال التخريبية في المنطقة “، وكانت موجهة بالدرجة الأولى ضد التحركات الكردية.

يتبع… 3/3).                                                               

جمال الأتاسي

دمشق 1985     

 (1) كتب الدكتور جمال الأتاسي هذه المقدمة في عام 1985 عند إصدار الطبعة الأولى لكتاب الأستاذ منذر الموصلي: عرب وأكراد- رؤية عربية.. للقضية الكردية.

* الأخ فهد هو المقدم فهد الشاعر (اللواء) قائد فوج اليرموك الذي شارك في معارك الشمال العراقي عام 1963. إن اسم الأخ فهد كان يطلقه الرئيس عبد الناصر على فهد الشاعر أثناء مباحثات الوحدة الثلاثية عام 1963 فاشتُهر به وكان يحبه.

التعليقات مغلقة.