الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

القضية الكردية هي أيضاً… قضية عربية(1)

الدكتور جمال الأتاسي

 (نشـرة داخليـة خاصة بالأعضــاء)

 

الاتحاد الاشتراكـي العربـي                                                                                           حرية * اشتراكية * وحدة

         في سوريــة

                                                                                       (1/3)

… والمسألة الوطنية الكردية واحدة من المسائل الوطنية الأساسية لهذه المنطقة، وفتح ملفها ودعوة القوى السياسية العربية إلى الحوار من حولها وتحديد لموقف منها، إنما يتناول بالضرورة قضيتنا القومية العربية ذاتها، ومقوماتها ومبادئها، كما يتناول مسائل وحدتنا العربية وسبل تحقيقها “.

مؤلف هذا الكتاب صاحب قضية، قبل أن يكون باحثاً في تاريخ الأقوام والقوميات، وفي علوم التاريخ والاجتماع والأتنولوجيا وفي الجغرافيا السياسية، وإن كان قد أقحم هذه المواضيع كلها في بحثه، ليجعلنا نُمسك معه بالقضية التي يبشر بها، وليحثنا على أن نتعاطف وإياه معها، وكأنه يريدنا أن نتحرك بأفكارنا ومواقفنا نحو إيجاد حل معقول وعادل لمسألة من المسائل الوطنية الصعبة التي تطرح نفسها على ساحة الشرق الأوسط والشرق العربي، وفي هذه المرحلة المتأزمة من مراحل صراعات المنطقة والعالم، ألا وهي المسألة الوطنية الكردية، والتي يكاد يجعل منها مسألة عربية- كردية. والتأكيد على القضية وما يرمي إليه الكتاب من أهداف، يبرز أمامنا منذ تلاوة صفحاته الأولى، وما أن يبحث في جغرافيا الأرض التي يسكنها الشعب الكردي كموطن ” أصلي ” له وفي معالمها وحدودها وتخومها وامتداداتها، ثم في السكان وأصولهم ومنابتهم. فالمؤلف في سياق كتابه كله، كثيراً ما نجده يقدم أمامنا قناعاته وأحكامه على الأمور، ويرد على القناعات المغايرة ويناقشها، من قبل أن يقدم عرضه الموضوعي للوقائع التاريخية والمصادر الأتنولوجية وللعوامل الثقافية والحضارية والأيديولوجية المتوافرة، أو هو يقدم لنا تلك القناعات في سياق البحث والعرض. فهو من خلال معايشته للقضية الكردية خلال فترة طويلة من الزمن، يعرف ما تطرحه هذه القضية من أسئلة ومسائل، وهو يرد عليها ويجيب، وهو يميل ويتعاطف ويُحب، وإنما يتوجه في ذلك كله من منطلقه القومي العربي، بل ومن منطلق ” بعثي ” أيضاً.

فالأستاذ “منذر الموصلي” يريد أن يؤكد أمامنا على الوجود القومي للأكراد. وهو في هذا  ” السفر ” الطويل، والذي سيتبعه كما يعدنا بدراسة مكملة تتناول جوانب أخرى من المسألة، يقدم لنا الكثير من المعطيات، سواءٌ ما يتعلق بها بجغرافيا الأرض والوطن، أو ما يرتبط بالتاريخ ومصادره ومساراته، وبالثقافات التي تملكها هذه الجماعة الإنسانية وبالأيديولوجيات الدينية والمذهبية التي اعتنقتها، ويسرد ما هو قائم في تقاليدها وعاداتها وطباعها وأزيائها، ويسّهب في الحديث عن عشائرها وأصولها وعن زعاماتها الأسرية ومنابتها. ويحدثنا عن عوامل تشتتها وتفرقها وعن عناصر تلاحمها ووحدتها. ويذكّرنا بما قام لها في الماضي البعيد والقريب من ولايات وإمارات، بل ومن جمهورية إقليمية لم تعمر طويلاً. ويعرض ما بذل لها من وعود دولية أو ما أخذت به من أحلام وطموحات. إنه ليُسوق هذا كله وكأنما يريد القول، أن أولئك القوم المتحدرين من ذلك الشعب العريق، الجبلي المقاتل الشجاع، والذين تسموا من خلال هذه المزايا والصفات، كرداً وأكراداً، إنما يحملون مقومات جماعة متماسكة عبر تشكلها التاريخي ومقومات شعب، ليكون من حق هذا الشعب أن يستكمل مقومات وجوده القومي كأمة، وأن يكون له كيان قائم بذاته ووطن. ومن الممكن بل ومن الحق أن يقوم كيان قومي لهذا الشعب، أسوة بغيره من القوميات والأمم. هذا إذا ما أردنا أن ندفع بالمعطيات التي يقدمها المؤلف والاستنتاجات التي يستخلصها إلى نهايتها. وهو إن لم يقلها تأكيداً فإنها تبقى في المضمون. فهناك شعب يناضل منذ عشرات السنين في عدد من أقطار المعمورة، وبإصرار وتصميم وبذل وتضحيات كثيرة ليحظى بالاعتراف بوجوده القومي، وليصل إلى هذا الحق كاملاً غير منقوص.

إن صاحب هذه القضية ليس ولم يكن كردياً، والقضية الكردية ليست قضيته التزاماً من حيث أنه ينطلق من منطلق قومي في النظر إلى وجود الشعوب والأوطان والدول والعلاقات فيما بينها. أما قضيته الأساسية فهي قضية القومية العربية والالتزام بمشروع لتحرر الأمة العربية وبناء وحدتها وتقدمها، ومن هذا المنطلق يأتي إلى القضية الكردية، وإلى القومية الكردية كحق طبيعي وإنساني، وكحقيقة تاريخية لشعب مضطهد وممزق ومازال يمّسك به الانقسام والتخلف، ليصبح شاغل المؤلف بل والقضية التي يتمسك بها، أن لا يقوم تعارض أو تصادم بين القومية العربية والقومية الكردية، وأن لا يقوم بين الشعبين العربي والكردي تحارب أو عداء، وأن لا يتصادم المشروع العربي للتحرر والوحدة، في أي موقع أو مرحلة، مع المشروع الكردي في أن يكون للشعب الكردي وطن وكيان. وهكذا فإن المؤلف يمضي في كتابه من البداية إلى النهاية ليؤكد على التواصل العربي الكردي، وعلى ما يؤلف بين الشعبين من روابط تاريخية ودينية وثقافية. فتاريخ الإسلام مشترك بينهما ومن معتقداته وقيمه الأخلاقية يستمدان جُل مقومات كل منهما الثقافية والأيديولوجية، وهناك النضال المشترك الذي خاضاه عبر مراحل التاريخ، حيناً في خطوط متوازية وأحياناً في وحدة واندماج ضد الغزاة، سواءٌ القادمين من الغرب أو الوافدين من أقاصي الشرق والشمال. ويقف بنا مثالاً وتفصيلاً عند الدولة الأيوبية التي أقامت كياناً عربياً- إسلامياً تحت قيادة وحكم أسرة كردية المنبت والأصول. تلك الدولة التي يعتز بها كل عربي كمأثرة من مآثر تاريخه وكملحمة من ملاحم نضال أمته. ثم أن كلاً من الشعبين وقع تحت وطأة الظلم وعهود الإقطاع والاستبداد الشرقي وفي ظلمة الغيبية والتغييب عن مسرح التاريخ. وكلاهما وقع تحت وطأة عهود التأخر وتحت تعسف الامبراطورية العثمانية وطغيان حكامها. ثم جاء الغزو الكولونيالي الغربي ليبسط نفوذه على المنطقة التي يعيشان فيها كلها. لقد قامت الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ومن خلال تصفية التركة العثمانية وتقاسم مناطق النفوذ والسيطرة في العالم، باحتلال الشرقين الأوسط والأدنى، وأقامت حدوداً للأقطار والأقاليم وتوازعت الانتداب عليها، وفقاً لما سمي بالنظام الشرق أوسطي. وإذا كان ذلك النظام في التجزئة والتقسيم الذي أقامه النظام الاستعماري الكولونيالي، ثم جاء الاستعمار الجديد بصورته الامبريالية الرأسمالية يؤكده، قد أقام حدوداً فاصلة وسدوداً إقليمية بين شعوب أقطار المشرق العربي، ليضيف إليها فاصل الكيان الصهيوني كاستعمار استيطاني توسعي، فإن ذلك النظام لم يبّقِ للشعب الكردي من أرض ولا وطن، بل هو بعثر الشعب كما وزع الأرض التي يعيش في حمى وديانها وجبالها وبين بحيراتها وأنهارها، بين أقطار عدة لأمم مختلفة. وإذا كان ” الحلفاء ” الغربيون قد أعطوا وعداً للوطنيين الأكراد، بإمكانية تأييدهم ليقام دولة مستقلة لهم في كردستان العليا من خلال تصفية تركة الامبراطورية العثمانية المهزومة في الحرب، كما جاء في معاهدة سيفز لعام 1920 فإنهم ما لبثوا أن مسحوا ذلك الوعد كله في معاهدة لوزان لعام 1923 التي جاءت إرضاءً لدولة أتاتورك التركية ولكسبها إلى حلفها الغربي، وبذلك تم وضع معظم أراضي المنطقة المسماة بكردستان في إطار حدود الدولة التركية الجديدة، ولم تشترط تلك المعاهدة على تركيا، كما لم يشترطوا على بقية أقطار المنطقة المتاخمة والواقعة تحت الانتداب، والتي يتواجد على أراضي ضمن حدودها المرسومة دولياً شعب كردي، كالعراق وإيران، إلا مبدأ ” احترام الحريات الثقافية والمدنية والسياسية لكل الأقليات “، الذي جاء هكذا على وجه التعميم.

إن المشروع العربي للتحرر القومي والوحدة، قد اصطدم ومازال يصطدم حتى الآن، وإن عبر صيغ متغيرة، بذلك النظام الشرق أوسطي للهيمنة الامبريالية على المنطقة، بكل ما يحمله ذلك النظام وما يتداخل في تركيبه ويتوالى على تأكيده من مصالح وتوازنات دولية وقوى خارجية، وبكل ما يمسكه ويتمسك به من تناقضات محلية وكيانات مصطنعة ومصالح إقليمية وفئوية. إن حركة التحرر العربي لم تستطع اختراق ذلك النظام أو كادت إلا إبان موجة نهوضها الشعبي العارمة، في مرحلة النهوض الناصري، وما حققته من وحدة القطرين المصري والسوري ومن إسقاط حلف بغداد في بغداد، وهزم سياسة الأحلاف الدولية والقواعد العسكرية والامتيازات الأجنبية، بدءاً من تأميم قناة السويس، وكلنا يعرف ما قام في وجه ذلك الاختراق دفعاً على طريق وحدة أمتنا، من تآمر استعماري دولي ومن تواطؤ رجعي محلي، ومن حروب وحملات عدوانية تأتي بين شواهدها الكبرى حرب السويس عام 56 والعدوان الكبير في حرب حزيران عام 67، وما أعقب ذلك من حركات ردة وارتداد وصولاً إلى حرب لبنان وإلى التفجر الطائفي في لبنان، وإلى محاولة إيقاع المنطقة كلها في الانقسام الطائفي والصراعات الإقليمية. وإذا كان هذا بعض ما تعثر به المشروع القومي العربي وما قام في وجهه أو مازال يقوم، من معوقات كثيرة، مع كل ما هناك من تواصل بين الأقطار العربية ومن مقومات وحدة نضال ومصير بين شعوبها وقواها الشعبية وما لها من مؤسسات مشتركة، فإن أمام المشروع القومي الكردي وأمام قدرته على اختراق ذلك النظام الشرق أوسطي التجزيئي، مع كل ما تداخلت فيه من معطيات جديدة ومن صراعات وتعجزات، عقبات تبدو كبيرة ومسائل أشد تعقيداً.

وإذا ما وقفتُ هنا لأؤكد أن يقظة القضية القومية العربية أكثر سبقاً ومقوماتها أكثر تركيزاً في الزمان والمكان وأكثر تكاملاً من حيث مراحل التطور، في الاقتصاد والثقافة والسياسة فليس هذا لأنتقص في شيء من الحقوق القومية للشعب الكردي، ومنها حقه الأول في تقرير مصيره بنفسه، وحقه في حياة حرة كريمة على أرضه التي يتواجد عليها منذ أجيال بعيدة، وأن يكون له كيان ووطن.. إنه شعب يناضل بإصرار في سبيل أن يكون له وجود قومي ووطن، والمصادر التاريخية تقول لنا أن ثورات هذا الشعب، مازالت تتوالى منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى اليوم، وقد بلغت ذروتها بعد الحرب العالمية الثانية.

ولكن في أي مصب راحت تصب هذه الثورات، بل الانتفاضات وحركات التحرر والعصيان، وعلى أي طريق تمضي، وإلى أية أهداف مرحلية أو بعيدة تهدف، وأين تلتقي ومن أي منظور تاريخي واستراتيجي تنظر؟ ذلك ما يبقى سؤالاً مطروحاً، وكذلك يبقى سؤالنا ” القضية ” هنا، وهو كيف يمكن للمشروع العربي الوحدوي أن يتقدم، وأن يعم سورية ويصل إلى العراق، من غير أن يتصادم مع تلك الأهداف الوطنية الكردية، أو أن تأتي لتعترض سبيله، في وقت تتداخل فيه الأرض الوطنية والمواطن البشرية، وتتصارع مصالح إقليمية وأخرى دولية، وتتشابك أيديولوجيات وقوى، وتقوم تحالفات منها الوطنية ومنها غير الوطنية، كما تقوم صراعات نظم وقوى حزبية تشد في هذا الاتجاه أو ذاك، وتغذي عصبيات كانت لمراحل ما قبل القومية وهي ما دون الوطنية، وقد تصد عنها وتشتت أهدافها ووحدتها.

فكيف للمشروع القومي الكردي، إذا ما أعطيناه أبعاده كمشروع تحرر وطني ووحدة شعب وأرض، أن يتلاقى ويتعاون، وأن لا يتعارض أو يتصادم، مع الأهداف والمطامح العربية التحررية والوحدوية، في إطار الظروف الراهنة المطبقة على المنطقة؟

وإذا ما وقفنا مع المؤلف نؤكد على القربى والإخاء وروابط الدين والتاريخ، فهل حال ذلك كله دون نشوب ذلك الصراع الدامي، والذي طال وتوالت حلقاته على أرض العراق العربي ومن حوله؟ وهل حال أيضاً دون أن تأتي العديد من الحركات والتحركات السياسية الكردية تعترض سبيل المشاريع والتحركات العربية الوحدوية؟ وفوق ذلك أولم يُشر الكثيرون إلى أن بين العوامل التي جعلت بعض الأحزاب الشيوعية العربية تعارض مشاريع الوحدة بين مصر وسورية ثم بينهما وبين العراق، العصبية الكردية التي كانت تشد بعض قيادات تلك الأحزاب لتقف موقفاً لا قومياً من قضية الوحدة العربية، ولتقف إلى جانب القوى السلبية التي فوتت على أمتنا فرصة من الفرص التاريخية الكبرى؟

وإذا جئنا إلى سورية أخيراً وإلى التعامل القومي العربي- الكردي فيها، وحيث لم تقم هناك مشكلات أو إشكالات بارزة من هذه الناحية، فهل حالت القرابة والقربى، بل والاندماج الوطني لكثير من الأكراد، دون أن يعتمد نظام الحكم، ذات يوم، خططاً وإجراءات في منطقة الجزيرة وشمالي سورية، أقل ما يقال فيها أنها غير عادلة وغير إنسانية، تجاه المواطنين الأكراد المتواجدين في تلك المنطقة وتجاه النازحين إليها هرباً من اضطهاد السلطات التركية. فمنذ عام 1967 أقامت الحكومة السورية ما يسمى بالشريط العربي أو الحزام العربي توطيناً وتمليكاً، كما حجبت عن كثير من الأكراد المقيمين في تلك المنطقة الجنسية والهوية السورية، بما في ذلك العديد من الأسر التي استوطنت هناك منذ زمن طويل ولها من مواطنيتها السورية أباً عن جد، فهل هي الشوفينية تأخذ مجراها، أم هي احتياطات غير موفقة تقدم تبريراً لها التحسب تجاه ما قد يراود بعض القوميين الأكراد، من إيجاد وطن بديل على الأراضي السورية، لمّا حيل بينهم وبينه في بلدان مجاورة ؟

إن المؤلف لا يريد أن يتعصب لعروبته وحدها، ولا يريد أن يأخذ بالوطنيين العراقيين والسوريين أو بالقوميين العرب عموماً، التعصب والنزعات الشوفينية ومقولات التمثل والدمج، كما ولا يريد للقوميين الأكراد أن تأخذ بهم العصبيات أو أن يحّجب عنهم التعصب رؤية الواقع والممكن. وهو يعرض أمامنا المآخذ التي يأخذها على ” غلاة الأكراد ” والمتطرفين منهم، أولئك الذين يُحرّفون وقائع التاريخ والحدود الجغرافية فيمدون أرضهم الوطنية حسب دعوتهم وتصوراتهم، فوق أراضي الآخرين وأوطانهم، ويشدون تخومها ومراميها إلى الخلجان والبحور، وبذلك لا يعود تطلعهم مجرد تطلع إلى موطن فعلي أو وطن لشعب مقيم، وإنما لما يشبه الإمبراطورية الكردية، وهذا ما ينعكس سلباً على المشروع القومي الكردي نفسه كمشروع تحرر وطني لشعب يريد لنفسه حرية تقرير المصير ويريد وحدته، ويريد أن يلتقي بحركات تحرر الشعوب ويتعاون معها. وهو كما يقيم تصادماً بين الحركات الشعبية في المنطقة، يقيم الانقسام أيضاً داخل الشعب الكردي نفسه، كما يفسح مجالاً كبيراً للزعامات الإقطاعية والعشائرية والأسرية، ولتمّسك بزمام الحركة الوطنية الكردية، من خلال نزعاتها العصبوية وعقليتها المتخلفة وإثاراتها الشوفينية، وهذا ما يترك السبيل ممهدة أمام تدخل اللعبة الدولية وصراعات النفوذ في المنطقة لتحكم مسارها ولتحّرف هذه الحركة عن أهدافها الوطنية المباشرة، بما تشد إليه مثل هذه الزعامات من مصالح خاصة وفئوية، ومن علاقات تابعية ومن ارتباطات خارجية.

إننا نجد أنفسنا هنا أمام إشكالية سياسية واستراتيجية تطالب بإجابات عليها، وتفتح باباً للحوار، وتطالب بالوضوح وتحديد المقاصد والأهداف، القيادات السياسية والحزبية المتقدمة إلى ساحة الفعل والتأثير في كل من الجانبين. وإذا كان المؤلف لم يطرحها بصيغتها المباشرة في كتابه، فإنها تظل تطل علينا من كل جوانب عرض المسألة في الكتاب، وما أن نريد الوصول بها إلى غاية، وما أن نحاول الانتقال من سياق العرض التاريخي الذي يقدمه، إلى معترك الأحداث الراهنة في الساحتين العراقية والإيرانية وما بينهما، وكذلك على أرض كردستان تركيا. وإلا فماذا يبقى من هدف للكتاب بعد طول الشرح والتفصيل للجذور والمقومات القومية، إلا أن يضعنا أمام توجهات، وأمام معايير لتبديد هذه الإشكالات، ولإزالة أسباب التصادم بين حركتي التحرر العربية والكردية.

إن ما ورد في الكتاب لا يصل بنا إلى طرح محدد لهذه الإشكالية ولعله يتفاداها. بل هو يعترض طرحها وينفي مبرراتها من خلال التأكيد على العوامل والعلاقات الإيجابية، وهو يقف عند الحلول الراهنة التي يقدمها الحكم العراقي لتسوية المسألة الكردية ولوضع حد للصراع المدمر الذي دار حولها على أرض العراق، كتعبير عن هذه الإيجابية من غير أن يخوض في خلفيات ذلك الصراع ومجريات أحداثه وتطوراته. والمؤلف يأتي هنا ليؤكد مجدداً على التسامح العربي المنزه عن العصبية والتعصب، ويأتي ليدافع عن الموقف البعثي ” الأصيل “، وما أعطاه أو ما يقدمه الحكم البعثي في العراق لأكراده من فرص وإمكانات لتعزيز ثقافتهم القومية ووجودهم الوطني. وهو على هذه الصورة إنما يعطينا الجواب من غير الخوض في مقدماته ولا البحث في متمماته، فهل يكون بذلك قد أنهى الإشكال أو قدم حلاً للمشكلة؟

ليت أن الأمور كانت كذلك، ولكن ليعذرني إن قلت بأن عواطفنا الشخصية الطيبة ليس لها من دور فاعل في اللعبة السياسية الكبرى التي تطبق علينا وتجري من حولنا، وإن الإشكالية قائمة وهي تطالبنا جميعاً بالوضوح، وضوح الأفكار ووضوح المواقف والمقاصد.

ما أظن أن قناعات مؤلف هذا الكتاب أو منظوراته للقضية التي يعرضها يمكن أن تتوقف بهذه القضية أو أن توقف حركة تاريخها عند هذه النقطة الراهنة والحلول الجارية وكأنها محط الرحال، من غير تدارك لدروس الماضي ومن غير تحديد لمنظور مستقبلي لها. فهل أن التعقيدات السياسية الكثيرة التي تحيط بها وبنا في المرحلة التاريخية الراهنة التي تمر بها الصراعات الدائرة في المنطقة ولعبة التوازنات الإقليمية والدولية ولعبة المصالح الكبرى المتزاحمة، أصبحت تسد الطريق أمام الآمال القومية الكردية أو تبقيها معلقة، كما جمّدت وعلقت الكثير من طموحاتنا العربية الوحدوية وطعنت أو فوتت علينا العديد من فرص تحقيقها… أم هل هي تجعل الخوض في هذه المسألة ضرباً من المخاطرة الذهنية أو بالأحرى السياسية، والتي لا تضمن عواقبها؟

لقد رضيت لنفسي هذه المخاطرة منذ أن رضيت التقديم لهذا الكتاب، والمسألة الوطنية الكردية واحدة من المسائل الوطنية الأساسية لهذه المنطقة، وفتح ملفها ودعوة القوى السياسية العربية إلى الحوار من حولها وتحديد لموقف منها، إنما يتناول بالضرورة قضيتنا القومية العربية ذاتها، ومقوماتها ومبادئها، كما يتناول مسائل وحدتنا العربية وسبل تحقيقها.

لقد بدأت من القول بأن مؤلف هذا الكتاب له التزامه الفكري السياسي بقضيته القومية العربية ووحدة هذه الأمة. ولكن قضيتنا القومية ذاتها هي اليوم أيضاً في مأزق صعب وأمامها تحديات كثيرة، ونحن عندما نبحث في المسألة الكردية ومستقبلها، فلما لها أيضاً من تداخل مع قضيتنا القومية ومن علاقة بها، وعندما نسأل عن مستقبلها فلأن له علاقته بمستقبلنا. هذا عدا ما يُلزمنا به المنطلق المبدئي، الأخلاقي والإنساني، وما تلزمنا به الأهداف المشتركة لحركة تحرر الشعوب في العالم.

ولعل مؤلف هذا الكتاب ما دفع إليّ به لأقرأه وما طلب مني أن أقدم له إلا لما يعرفه من موقفي تجاه هذه القضية وبأنها تعنيني، هذا فوق ما بيننا من ودّ قديم. لقد جاء يذكرني بأيام خلت ومواقف لنا من هذه القضية وغيرها كانت مشتركة، عندما كنا رفاق درب واحدة، تحدونا آمال كبيرة باقترابنا من تحقيق أهدافنا القومية، ثم تفرّق مسارنا وافترَقت مواقفنا. وهو إذا ما ظل كما أحسب على الحنين إلى ” البعث ” القديم أو على الوفاء له، فإن منهج حزب ” البعث ” لم يعد نهجاً لي منذ زمن طويل، فلقد خرجت منه وخرجت عليه ووقفت في معارضته منذ عام 1963، أي منذ أن أصبح البعث دولة ونظام حكم، ثم أصبح نظماً مختلفة وشيعاً. ولقد جاء هذا الافتراق من خلال اجتهاد كان لي ومازال، في أن بعض قيادات حزب البعث منذ أن أخذ بها النزوع للسلطة والتفرد بها، وقفت لتعترض طريق المنهج القومي الناصري في إنجاز مهمات الثورة العربية كثورة قومية ديمقراطية، وليفوِّت على نضال الأمة فرصة تاريخية لتحقيق وحدتها، الفرصة التي توفرت لها بنهوض قيادة عبد الناصر التاريخية ونهوض مصر عبد الناصر، وما أمكن حتى الآن التعويض عن فوات تلك الفرصة، إلا بهذا التقهقر الكبير الذي تراجعت إليه قضية تلك الثورة وجماهيرها وقواها. وأنا اليوم من الذين مازالوا يعتزون بناصريتهم، ويأخذون بمنظور مستقبلي ومتجرد لها. وما أتيت على ذكر الانتماءات هذه وتحديدها، إلا توضيحاً للمنطلقات التي نتوجه منها إلى تحديد مواقفنا من القضايا القومية التي يعرضها هذا الكتاب، وأولها ما يتعلق بموقفنا كقوميين عرب من قضايا القوميات الأخرى والأقليات القومية الموجودة ضمن الحدود المرسومة للوطن العربي ولعدد من الأقطار العربية، ومن قضية القومية الكردية تخصيصاً. وأستبق ما سنأتي على سرده من أحداث مرت ومواقف مضت لها دلالتها بهذا الشأن، لأذكر بأن جمال عبد الناصر كان دائماً ينطلق من موقف وطني متفتح، ولقد جاء في عدد من مواقفه ومنذ عام 1959 أي منذ أن خرجت المسألة الكردية، نفسها، بشكل جاد على مسرح الأحداث في العراق وعلى العلاقات العربية والمشاريع الوحدوية، كان يؤكد دائماً على الإخاء العربي الكردي وعلى ضرورة إزالة كل أسباب التصادم بين الشعبين العربي والكردي، وكان يدفع دائماً لتأييد مشاريع التوفيق بينهما في العراق، كما كان في طليعة القادة العرب القوميين الذين أكدوا على مبدأ حق الشعب الكردي في الحصول على حقوقه القومية.

يتبع… 2/3).                                                               

 جمال الأتاسي

دمشق 1985     

 [1] كتب الدكتور جمال الأتاسي هذه المقدمة في عام 1985 عند إصدار الطبعة الأولى لكتاب الأستاذ منذر الموصلي: عرب وأكراد- رؤية عربية.. للقضية الكردية.

التعليقات مغلقة.