الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي

الناصرية ومستقبليتها: الاقتناع والتجديد (3/4)

الدكتور جمال الأتاسي

دمشق – 1981

رابعاً – الناصرية ومستقبليتها

الاقتناع والتجديد

(3/4)

لقد رفض عبد الناصر القوالب التقليدية للعمل السياسي العربي والتنظيم الحزبي والشعبي، ورفض دكتاتورية الطبقة في الحكم، ورفض حزب الفئة الاجتماعية الواحدة، ورفض اخضاع النضال السياسي للمذاهب النظرية الشمولية والجاهزة، ورفض مذهبية الدولة، ورفض الاتباعية والتقليد .

ولكن البدائل التي قدمها لسد هذه الفراغات، ظلت مرحلية أو ناقصة وظل حضوره هو الذي يغطي نقائصها. ولقد كان واعياً لجوانب كثيرة من هذه النقائص، وهو الذي وقف ينادي في اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي: ” إننا نبني الاشتراكية بدون اشتراكيين، والاتحاد الاشتراكي تُعشش في داخله قوى للثورة المضادة، وقوى الثورة المضادة منظمة، أما القوى التقدمية والاشتراكية فغير منظمة، بل هي شبه غائبة او متنحية ولم نكشف مواقعها، ولم نشدها إلينا وننظمها ولم نُعدّها لقيادة الثورة والدفع باستمراريتها “.

وعبد الناصر هو الذي طالب ” بحزب اشتراكي ” من طراز جديد، ونادى بالطهارة الثورية للقيادة، وبجماعيتها في تحمل المسؤولية واتخاذ القرار. وقال بخطورة الاعتماد على قيادة الفرد وطالب بإسقاط ” دولة المخابرات ” والاجهزة، وطالب بالعمل لوحدة فكر الثورة وتوحيد قواها وأداتها… ولكن ذلك كله ظل عند حدود المطالبة للنفس وللآخرين، وتوجهاً نحو المستقبل. ثم إن ثورة عبد الناصر كما قلنا كانت وهو في الحكم، والثورة اليوم إذ تنزل إلى القاعدة الشعبية تجد أمامها تمهيدات لها من عبد الناصر، ومن مرحلة عبد الناصر. تجد أمامها امتدادا أفقياً في صياغة الوحدة الوطنية مثلاً، وفي تفتيح وعي حركة الجماهير على مصالحها وأهدافها وقدراتها وفي تحريض نضاليتها، والمطلوب اليوم إعطاؤها بُعّدها في العمق، تثقيفاً وتنظيماً .

وهذا الترسيخ للثورة في العمق بحاجة للفكر المتقدم الذي يوحد تيارات الثورة ويضعها أمام نهج استراتيجي جديد في إنجاز مهمات الثورة والتوجه نحو أهدا فها، بدءاً من ترسيخ قواعدها الديمقراطية في إدارة العلاقات بين قوى التقدم، وفي بناء اللُحّمة الوطنية والتبلور الاجتماعي والطبقي وتعبيراتهما، وفي الدفع بحركة التغيير. وهذا التوجه بحاجة للطليعة التي تحمل فكره وتقود النضال على طريقه وتبتكر الصيغ المناسبة في التنظيم وفي بناء العلاقات بين القوى، واضعة أمامها- لا وراءها- مقولة عبدالناصر عن الحاجة إلى وحدة الفكر ووحدة الأداة. والمبدأ الديمقراطي من جهة، والمنظور الجدلي والتاريخي، من جهة أخرى، لا يجعلان منها وحدة قسرية، بل وحدة في إطار التنوع والتحاور والتنافس، وينزعان عنها الاقتتال والتصادم والصيغ الانقلابية والقسرية في الصراع على السلطة .

ولكن هذا التوجه الذي يطالب بتحديد ووضوح أكثر بكثير… إنما يطالب أول ما يطالب بالخروج عن الصيغ التقليدية والاتباعية التي انتهجتها وما زالت تنتهجها القوى والتنظيمات التي ترفع الشعارات والأهداف التي رفعتها ثورة عبدالناصر، ولو أنها ما زالت الشعارات الأكثر رسوخاً في حياة جماهير الأمة والأكثر تعبيراً عن مصالحها وهى وحدها التي تشكل وحدة في تطلعاتها. ذلك أن تلك الصيغ التقليدية لم تستطع الحفاظ على مسار التقدم، في فكرها أو في نضالها، وهي لم تستطع أن تقدم شيئاً كبيراً في مواجهة السقوط الذي جاء بعد عبدالناصر، وهي ما زالت في تعثر وتشتت .

إن تجديد فكر الثورة ونهجها الاستراتيجي وصياغة قواها ومراحلها ومضامين أهدافها، يبدأ عندما تصل الطلائع السياسية والثقافية لحركة التقدم إلى مثل هذا الوعي النقدي لواقعها وضرورة تجاوزه، وإلى مثل هذا التصميم، أي إلى وعي الفشل الذي مُنيت به، من خلال الأشكال التي قامت وتقوم عليها في التخطيط والعمل والتنظيم، وفي التعامل مع حركة الواقع المتغير والتعامل فيما بينها… إن مثل هذا الوعي، أو إن هذه المواجهة الواعية لفشلها السياسي، هو الذي يضعها في مواجهة الواقع باستيعاب جديد، وهو الذي يضعها في التعامل مع حركة التاريخ والفكر التاريخي بجدليته وتطلعاته المستقبلية، مثلما وضع عبدالناصر وصنع تقدميته وتقدمه. وهذا ما يطالبها بتجاوز نفسها وبأن تضع حركتها في مسار غير المسار الراهن الذي تتمسك به، بعد أن ثبُتَ عجزه في ساحة الممارسة والجدوى.

وهذا كله يطالب اليوم بثورة ثقافية، ومثل هذه الثورة كان قد ألمح إليها عبدالناصر وطالب بها في عدد من المواقف والمناسبات، وطالب بها لتكملة ثورته الوطنية كثورة سياسية واجتماعية وعربية وحدوية، ولتعزيز لحّمتها الأيديولوجية، ورسم تفاصيلها في صياغة المجتمع الجديد بكل تعابيره الثقافية والحضارية. ولكنه تطلع إلى الثورة الثقافية ” كتكملة ” وطالب أن تشمل جوانب الحياة الاقتصادية والإعلامية والتعليمية والأدبية والفنية… لتأخذ الثورة هويتها المتكاملة. وفي واقع الأمر، إن عبدالناصر في النصف الثاني من مرحلته، أعطى تمهيدات لها وفتح الأبواب أمامها، ولكنها ظلت فتحاتٍ ضيقة ومحاصرة بالمجتمع التقليدي من جهة وبالتكوينات البيروقراطية من جهة ثانية. ومع ذلك فقد أعطت… إنها أعطت في ” المعاهد الاشتراكية “، وأعطت في الإعلام، وفي التعليم ومناهج التعليم المتجددة، وفي الاصلاح الديني … وأعطت في الأدب المسرحي وفي الفنون وفي مجالات أخرى عديدة… ولكنها كانت تطلعات وتمهيدات عادت وعصفت بها رياح الردة .

والمطلوب اليوم لا أن تأتي الثورة الثقافية خاتمة وتكملة، بل أن تأتي بدايةً ومنطلقاً. والثورة الثقافية تبدأ مع فتح أبواب النقد على مصاريعها في كل المجالات. ولذا فان عنوانها الرئيسي اليوم هو الديمقراطية والنضال في سبيل الحريات الديمقراطية السياسية والفكرية، فبغير الديمقراطية لا يمكن توفير المناخ اللازم لهذه الثورة، إلا إذا تحريناها في الهجرة خارج الوطن وخارج الحدود، كما هو حاصل ويحصل اليوم بالنسبة للكثيرين. وإذا كان التعبير الديمقراطي للثورة الثقافية يعني أول ما يعني حرية الرأي والمعتقد والتنظيم السياسي، ويعني الحوار بين الأفكار والمنظورات الأيديولوجية بحثاً عن هوية وعن وحدة… فإنها تعني في الوقت ذاته صراعاً عريضاً أيضاً، والمحور الرئيسي له، الصراع بين التقليد والتجديد، وبين الاتباع والابداع، بين المحافظة على الأطر القائمة للتفكير والعمل، وبين اختراقها وتجاوزها تفتيشاً عن حلول جديدة للمسائل، وعن أطر جديدة للعمل.

إن دعاة الاتباع، وفي أطر المجموعات السياسية والفكرية التي تقول بالثورية والثورة ذاتها، لا تقدم شيئاً للخروج من التعثر الراهن بل تزيده. والاتباعية هنا لا تزيد عن أن تعود إلى الجمود في الفكر والتشتت في العمل والبعد عن الهدف لتقلب معادلة الثورة رأساً على عقب وتتطلع بها إلى الوراء لا إلى المستقبل. وهذا ما وقف فكر عبدالناصر ضده وأراد التغلب عليه، ولذا فإن الاتباعية في ” الناصرية ” (كما في غيرها من المنظورات الأيديولوجية) ومحاولة تطبيق ما كان في مرحلة على مرحلة أخرى مختلفة عنها، يجعل منها معوقاً لا حافر تقدم. والدليل أمامنا فيما يجري من ارتداد إلى المواقع والأطر السالفة في العمل السياسي من غير نزوع للتغيير والابتكار، لا لتصبح تلك الأطر قاصرة وعاجزة فحسب، بل وكذلك محاولاتها في صياغة التحالفات والتكتلات و ” الجبهات ” الوطنية والقومية، والاتباعية في الفكر تصبح بالضرورة هنا اتباعية في السياسة، بل هي بالأصل اتباعية في السياسة (بل وكثيراً ما تكون انتهازية) تُسَخر الفكر للمصالح الفئوية والزعامات الفردية. فهذه الإتباعية تلغي المبادرة وتحارب الابتكار والإبداع وتعطل بالتالي حركة التغيير، وتصب بالنتيجة في واقع الضياع واستمرارية الأوضاع الراهنة، وتعوق بوجودها الثقيل في الساحة، وبمن تشدهم إليها بشكل أو بآخر، تجديد حركة الثورة وتجديد قواها وأداتها .

وما دمنا ندور في إطار فكر عبدالناصر، وما يقدم من حوافز، فإن تلك النزعة الاتباعية، التي تأخذ بها أو تقوم عليها بعض المجموعات التي تحمل اسم “الناصرية”، تظل بعيدة عن حركة التجديد والتعلم من التجربة في فكر عبدالناصر، وهي تؤذي المشروع الثوري الذي سار فيه عبدالناصر، من ناحيتين رئيسيتين:

1- تجميد الجدلية التاريخية في ثورة عبدالناصر من حيث أن النهج الناصري كان حركة نضج و تقدم، وهو في الفكر تأليف وتركيب ومحاولة ابتكار وإبداع لا عملية أخذ وانتقاء وتجميع واتباع. وهو في السياسة عملية توحيد للقوى وتعبئة لحركة الجماهير وتحديد للأولويات التي توحد الموقف الوطني على طريق الهدف الاستراتيجي (وفكره لم يكن موجهاً لفئة سياسية محددة، بل كان موجهاً لكل القوى الوطنية والتقدمية في الوطن العربي). وهكذا فان الاتباعية هنا تقلص مشروع عبدالناصر الثوري وتُضيّق آفاقه، وتبقى بالضرورة في مواقع متأخرة عن حركة عبدالناصر وفكره، وهي تغلق هذا الفكر عن التفتح وعن استيعاب التغيرات وعن التجدد. كما أنها تجمد معها المجموعات التي تمسك بها حركة الجماهير وهذا ما يعطي بالتالي رصيداً، لا للثورة وتجاوز أزمتها الراهنة وانقسامات قواها، بل رصيداً للقوى التقليدية والرجعية في السياسة، وللقوى المحافظة والسلفية في المجتمع، تلك القوى التي تتحرك في الساحة من جديد وتمتد على حساب أوجه قصور قوى الثورة والتقدم .

2- إبقاء الثغرات التي كان يسدها عبدالناصر بحضوره على رأس حركة الثورة… إبقاء هذه الثغرات مفتوحة. فعبدالناصر بحضوره القوي والمتحرك كان يسد فراغ التنظير الفكري والاستراتيجي لخطوات الثورة ومراحلها، وكان يسد فراغ ” التنظيم السياسي ” أو الحزب الثوري الذي يتقدم أمام حركة الجماهير وكان يسد، إلى حد ما، فراغ الديمقراطية ورقابة الشعب على القيادات وعلى الحكم… ثم إن عبدالناصر بحضوره كان تعبيراً عن وحدة الأمة وكان ممسكاً بمصر كلها وبتقدمها وبقوة شعب مصر وتماسكه الوطني، ومن هذا الموقع كان سنداً لكل قوى النضال والتقدم في الوطن العربي وكانت مساندته إيجابية ومؤثرة وفاعلة .

__________________

يتبع..

رابعاً – الناصرية ومستقبليتها: الاقتناع والتجديد (4/4)

التعليقات مغلقة.