الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي

الناصرية ومستقبليتها: الاقتناع والتجديد (2/4)

الدكتور جمال الأتاسي

دمشق – 1981

رابعاً – الناصرية ومستقبليتها

الاقتناع والتجديد

(2/4)

وكذلك أن نتابع خط عبدالناصر في النضال ضد الاستعمار القديم منه والجديد، وموقفه القاطع ضد الإمبريالية وسياساتها وقواعدها وأحلافها، وضد مواقع نفوذها وهيمنتها، وضد التبعية لسوقها الرأسمالية واحتكاراتها الدولية، وضد الصهيونية ووجودها الاستعماري الاسرائيلي على الأرض العربية. ومتابعة نهج عبدالناصر في السياسة الدولية والدور الكبير الذي أداه في بناء حركة عدم الانحياز. ومتابعة تجربته أيضأ في بقية المجالات التي فعلت فيها، فكراً ونضالاً، وعملاً وبناءً، أو سياسة وتنظيماً .

ولكن لو أننا استكملنا هذا كله، واستخلصنا من تلك التجربة كل معطياتها كما تحققت، هل يكون بمقدورنا بعد ذلك أن نقول: هذه هي ” الناصرية ” وهذا فكرها وهذه أهدافها، وتلك كانت وستظل استراتيجية العمل والنضال لتحقيق ثورة الأمة وأهدافها في الحرية والاشتراكية والوحدة؟ إنها كذلك، أو هذه هي الناصرية، إذا لم نرد أن نعطي لكلمة ” الناصرية ” ما يعطي لمثل هذا التعبير عن الأخذ بمنظور ايديولوجي كامل، ووقفنا بها عند حدود تجربة عبد الناصر وما قدمت لحركة الثورة العربية من رصيد ومعطيات، وما أنجزت وحققت في مرحلتها من مهمات، ووقفنا بها عند مجمل فكر عبد الناصر بممارسته في حياته السياسية والنضالية. ولكننا إذا ما وقفنا بمعطيات تلك التجربة عند هذا الحد، وقلنا أنها كانت تجربة كافية ووافية، وحاولنا أن نسّتخلص منها إجابات قاطعة أو نهائية على كل المسائل والقضايا، نكون قد مَذّهَبنا فكر عبد الناصر وثوريته، وهذا ما لم يرده عبد الناصر وكان ضده، وضد مذهبية السياسة والدولة، وضد إخضاع حركة الثورة للمعتقدات القاطعة والنظريات الشمولية. ثم نكون قد أغفلنا ” الناصرية ” كحافز ثوري وانغلقنا عليها، وجمدنا نزعتها الجدلية والمستقبلية في التجدد والاستمرار ونكون قد وضعنا ثورتنا العربية في الماضي، ليصبح الأخذ بها على هذه الصورة ضرباً من الرجعة، أو نمطاً من الاتباعية، ونكون قد سلبنا من فكر عبد الناصر بالتالي ما حملته تجربة عبد الناصر الثورية من حوافز تجديد وابتكار في الفكر والممارسة، ومن حافز إبداعي .

ولكن الذي نريد الأخذ به من ” الناصرية “، ولتصبح نهجا لتجديد مسار الثورة العربية، هو هذا الحافز للتقدم والتجاوز والابتكار، وما تقدمه لهذا التقدم من ركائز ومعطيات… نريد منها مستقبليتها وما تقدمه من منظور استراتيجي لمواجهة هذا الحاضر الذي يثقل كثيراً بما يحمله من تشتت وتراجع وضياع، فلا نقف عند الالتفاف من حوله بتكتيكات قاصرة ومقولات وشعارات فقدت الفعل في حياة الجماهير وفقدت حس التاريخ ونبض الحياة. فالوفاء لتجربة عبد الناصر وفكره يبقى في إطار الوفاء لقضية الثورة العربية التي كانت قضيته، وإنصاف عبد الناصر لا بد أن يبقى في خدمة ما أراده عبد الناصر من التقدم بقضية الأمة. ومن هنا فإن الوقوف عند ما أعطى عبد الناصر لم يعد كافياً، هذا إذا ما أردنا من الناصرية والالتزام بها: نهجاً فكرياً وسياسياً وتنظيمياً يسّهم في تقديم صياغة جديدة لحركة الثورة العربية ولاستراتيجية حركتها باتجاه أهدافها وإنجاز مهماتها .

ومن هنا يصبح مطلوباً منا ونحن نستخلص معطيات تلك التجربة في مرحلتها، أن نمد بها إلى الأمام، وأن نأخذ بجدلية حركتها في عبور المراحل وتجاوزها، وأن نطبق عليها معاييرها أيضاً في النقد وفي تقييم الخطأ والصواب فيما أعطته وتقدمت به .

وعدا هذا فإن كثيراً من الأمور قد تغيرت بعد عبد الناصر، في مصر وفي الوطن العربي كله، بل وفي العالم أيضاً، مما يقتضي مراجعة نقدية لكل مسار حركة التقدم العربي. فلا يجوز أيضاً أن نغفل عدداً من العوامل والمقدمات التي كانت لمرحلة عبد الناصر، ولم تعد متوفرة الآن ولا بد من بدائل لها. فتجربة عبد الناصر السياسية والفكرية، وحركة تقدمها ونضجها كانت التعلم من الممارسة وهو في قمة المسؤولية والحكم، فضلاً عما إذا كان لشخصيته التاريخية ولشعبيته من دور فعال ومؤثر. ولقد كانت بين يدي قيادته الدولة وقواها المادية والسلطوية وامكاناتها، وكان اعتماده على سلطة الدولة رئيسياً في إدارة تلك التجربة، وكذلك كانت تحت قيادته قوة الجيش، وكانت من حوله حركة الجماهير في توقد ثوري وفي صعود…

فالتجربة الناصرية في إنجاز مهمات الثورة العربية في التحرر والتقدم والوحدة قد مشت في سياق، وهذا السياق قد انقطع، فاليوم لا عبدالناصر موجود ولا قيادته ولا إبداعه وابتكاره، والدولة وأدواتها وإمكاناتها ليست موظفة لمساندة حركة التقدم والثورة، بل ضدها، وليست مجال تطبيقها وتأثيرها، بل هي نقيضها. وأجهزة السلطة وأدواتها وقواها موضوعة في الاتجاه المضاد لحركة الجماهير وتعمل على قمعها وحماية تحرك النظام في الاتجاه المعاكس لثورة الأمة وأهدافها. ثم إن حركة الجماهير بعد هذا كله في انحسار، أو هي تتحرك بعفويتها الصرفة وتتفجر بين حين وآخر تعبيراً عن نقمتها .

ومن هنا يصبح من الضروري لتجديد مسار الثورة ، قلب معادلة تلك التجربة الثورية التي بدأت من فوق ومن الإمساك بزمام السلطة والدولة بدايةً، لتتحرك من القاعدة ولتبدأ نموها في أحضان حركة الجماهير، وهي تعرف سلفاً أن القوى السلبية والمعاكسة لحركة الثورة هي الممسكة بمقاليد السلطة والدولة، وهي التي تفرض نفسها عليها من فوق كصانعة للمرحلة ولتاريخ هذه المرحلة، وفعلها هذا إنما هو جهد جديد يضاف للتأخر القديم لتجميد حركة هذا التاريخ وقسره .

وهذا القلب في معادلة تلك الثورة، أي إنزالها من قمة السلطة إلى ساحة النضال الشعبي أولاً، يدّخل عنصراً جديداً على المعطيات التي قدمتها تجربة عبدالناصر، فما كان مؤجلاً عند عبدالناصر، أو متروكاً ليأخذ مقوماته وأبعاده بالتدرج وبتراكم الخبرات والضمانات، كمسألة ” الحزب الثوري ” وتحويل تحالف قوى الشعب العامل إلى ” كتلة شعبية تاريخية، متحركة وفاعلة، ومسألة صياغة أداة الثورة على المستوى القومي، أي ما أطلقه عبدالناصر تحت شعار ” الحركة العربية الواحدة ” أو الجبهة الموحدة لقوى الثورة العربية، ومسائل التنظيم والتنظير الأيديولوجي، تصبح من المسائل المطلوبة أساساً وفي المقدمة. ومن هنا وفي هذا السبيل أيضاً تأتي مسألة الديمقراطية لتحتل مقام الصدارة بين المسائل التي لا بد من الإجابة عليها والأخذ بمقدماتها في أية صياغة جديدة لحركة النهوض العربي، ولتصبح المقدمة التي لا بد منها لأي نهوض يقوى ويمضى على طريق التقدم والثورة. ذلك أن وعد ” الديمقراطية السليمة ” هو الوعد الذي لم يتحقق في التجربة الناصرية، وليس هذا فحسب، بل إن أوجه قصورها، وما تؤدي إليه من ضعف في البنيان السياسي التنظيمي وفي البنيان الثقافي، كانت وما زالت هي الثغرات التي تنفذ منها أكثر العوامل والقوى السلبية المضادة للثورة .

وهذا ما يطالب ببدائل عديدة للأطر التي كان يبني عليها، ويتوجه إليها، فكر عبدالناصر. وأولها البديل لقيادة عبدالناصر، والبديل هنا لم يعد من الممكن أن يأتي عن طريق رجل تاريخي فرد، أو زعيم سياسي مهما بلغت قدرته وشعبيته، بل البديل هو حركة ثورية جديدة وقيادة ثقافية وسياسية جماعية، قادرة على الوعي وعلى الاحاطة لا بتجربة النهوض في مرحلة عبدالناصر، فحسب، بل وبكل ما جاء بعده وكل ما تغير من بعده .

والبديل لسلطة النظام لا يمكن أن ينهض اليوم إلا كإرادة شعبية منظمة وسلطة شعبية. والمقولة التي قدمها عبدالناصر لصياغة هذه السلطة والإرادة وهى مقولة ” التحالف ” التي أقام عليها بناء ” الاتحاد الاشتراكي ” بقاعدته العريضة ” وتنظيمه السياسي ” إذا ما صلحت كفكرة عامة توجه العمل الوطني فإن تطبيقها من جديد لا بد أن يطالب بصياغة مختلفة لذلك التحالف الطبقي، ولطليعته أو طلائعه المنظمة أيضاً، ونهجها واستراتيجية نضالها، ولتلك القاعدة الوطنية والديمقراطية للثورة والتغيير الثوري، بحيث تقوى على التصدي لحلف القوى المضادة، وعلى استبعاد ” دموية الصراع الطبقي ” واحتمالات تحوله الى حروب أهلية وطائفية في آن واحد. وهذه بذاتها معادلة صعبة .

وفي مواجهة هذا كله، ومواجهة تعثر المرحلة، إذا كان من الجائز بل ومن الضروري الاسترشاد بالنهج الذي سار فيه عبد الناصر في مبادئه الأساسية وفي أهدافه الثورية وفي جدلية حركة تطوره، وسمينا ذلك التزاما بمنظور ونهج ” ناصري” فإن الوقوف عند هذا الحد ليس كافيا، ولا يتفق مع جدلية النهج التاريخي وحركة تقدم الثورة واستمراريتها .

فليس كافياً الوقوف عند ما قال عبد الناصر وما أنجز، وليس المطلوب اتباعه في كل صيغ ممارساته… ثم هناك ما قاله عبد الناصر وطالب به ولم يصل إلى تحقيقه، ثم هناك ما لم يقله وما لم يُجبْ عليه من مسائل، وتتطلب حركة التقدم العربي الإجابة عليها اليوم .

بل وبالنسبة للعديد من هذه المسائل كمسألة الديمقراطية ومسألة الحزب الثوري، والنظرية أو الإيديولوجية التي توجه مسار الثورة… يمكن الاسترشاد بنهج عبد الناصر فيما رفض من صيغ وجدها غير ملائمة وفيما وجده متخلفاً وقاصراً ومربكاً لحركة الثورة ومشتتاً لقواها، أكثر من الاسترشاد بما حقق في هذه المجالات وأنجز .

______________________

يتبع..

رابعاً – الناصرية ومستقبليتها: الاقتناع والتجديد (3/4)

التعليقات مغلقة.